الماركسية والأخلاق

عندما يبشر أساطين الرأسمالية بالمُثل الأخلاقية فإنهم بالتأكيد يستثمرون هذه المُثُل ذريعة لتمرير مصالحهم الأنوية بالتظاهر المنافق بأنهم إنما يبتغون الصالح العام أو منفعة البشر. هنا تتحول المُثل الأخلاقية إلى وسيلة لتزييف الوعي، أي: إلى أيديولوجيا سلبية. ولوعي ماركس التام بكون الوصايا والنصائح الأخلاقية بحد ذاتها لم ولن تفيد في تحرير الإنسان من الاستغلال، ولا في بناء المجتمع المنشود الذي يتيح للفرد الطبيعي أن يطوّر فيه كل قدراته وتحقيق ذاته، نجد أن ماركس يسخر من مثالية وأوهام الفكر الطوباوي للأخلاق، العاجز عن إثارة ردود الأفعال الاجتماعية المطلوبة من أجل التغيير الناجز، مثل سخرية (سيرفانتس) من ردود الأفعال الحالمة والغبية وغير المرتبطة بالواقع والمبنية على الأوهام ل (دون كيشوت) وتابعه (سانتشو بانزا). يقول ماركس: (يعتقد صاحبنا المبشر بالأخلاق والبارد الدم سانتشو.. أن المسألة لا تتطلب إلا نمطاً مختلفاً من الأخلاق، وما يبدو أنه نظرة جديدة للحياة، واستنباط بضع أفكار ثابتة من الرأس، ليصبح الجميع سعداء وقادرين على التمتع بالحياة). (الأيديولوجيا الألمانية، 5: 419).

المطلوب إذن أن لا يكون الانطلاق نحو التغيير مستنبطاً من الإرادة ومن الرأس، لأن ذلك لن يستطيع تغيير شيء من الواقع؛ المطلوب هو أن يكون الانطلاق نحو التغيير مستنبطاً من وقائع الوضع الاجتماعي للبشر، ومن الممارسة العملية للنشاط الثوري المنظم، في ضوء نتائج الكشف العلمي عن هذه الوقائع الموضوعية. وبعد كشفه عن تلك الوقائع، ولكونه يؤمن بأنه من واجب الفلاسفة تغيير العالم، فقد أطلق ماركس مع رفيقه إنجلز، نداءهما الشهير: (يا عمال العالم.. اتحدوا)! وعانقا مبدأ الثورة لمحو الظلم، الثورة الاجتماعية عبر إحداث تغييرات جذرية في بنية علاقات الإنتاج الرأسمالية تسمح بتحرير البروليتاريا المنظمة من الاستغلال، ومن ثم تغيير أنشطة كل البشر وقابلياتهم ومواهبهم وترقيتهم دون استثناء.

هنا، في النداء للثورة، تصبح الأخلاق دائماً أكبر من أن تكون مجرد أيديولوجيا سلبية بيد المستغلين. فعندما يصبح الإنسان ثورياً، وينخرط في النضال المنظم، فلا بد أنه يشعر في قرارة نفسه بوجود ظلم ما يملي عليه ضميره التجرد للنضال ضده. وفي الكثير من الأحيان، قد لا يكون هذا الظلم على تماس مباشر بمصالح المناضل بالذات، وأحياناً يكون من مصلحته حتى عدم مناوأته أصلاً. مع ذلك، فإن هذا المناضل لا يبالي من وضع مصالحه، بل وحتى حياته ومستقبله برمته، على كف عفريت في سبيل ما يعتبر أنها قضية شريفة. وكل ذلك لكونه يشعر بأن هناك خطأ ما – مثل الاحتلال، أو الظلم السياسي والاجتماعي، أو التفرقة العنصرية والجنسية، أو الفقر أو الفساد المالي أو الإداري، أو حروب النهب والإخضاع الرأسمالي.. – الذي يستوجب المقارعة ويستحق التضحية في سبيله. القضية هنا هي، أساساً، التزام أخلاقي – نحو الذات والمجتمع – بامتياز، وأستطيع القول إنه لا يمكن أن يوجد هناك أي توجه ثوري دون وجود موقف أخلاقي رافض للظلم الاجتماعي. والثورية دون أخلاق رافضة للظلم الاجتماعي ولانتهاك حقوق الإنسان هي فاشية مقنعة بلبوس الثورية.

وعليه، فقد كان تكريس ماركس وأنجلز جلَّ حياتهما ونشاطهما العلمي والتنظيمي لتحرير البشرية من الظلم الاجتماعي للنظام الرأسمالي القائم هو – ذاتياً وموضوعياً – موقف أخلاقي بامتياز، خصوصاً عندما نجد أن لبّ نقدهما للرأسمالية ينطلق من اكتشافهما العلمي بأن من أخص خصائص هذا النظام اللاأخلاقي هو التسبب جبراً في غربة جميع البشر ( عمالاً ورأسماليين ) عن جوهرهم ككائنات اجتماعية، ومَنْعِهم من التفاعل الإنساني بوعي غائي مع المجتمع والطبيعة. ففي مخطوطته المعنونة (التضاد بين رأس المال والعمل) العائدة لعام 1844 (3: 284) يشخّص ماركس أن النظام الرأسمالي ينتج (التفسخ الأخلاقي والتشويه والتبلّد للعمال وللرأسماليين). وفي الأيديولوجيا الألمانية، يشرح لنا ماركس كيف أن نظام الإنتاج الرأسمالي ينتج العامل الذي (يضطلع بدَوْر السلعة)، وأن هذا الدور يحوله إلى (مخلوق فاقد لإنسانيته جسدياً وعقلياً). مثل هذا النقد الإنساني الصريح – وغيره كثير – هو بالضبط نقد علمي وأخلاقي في الوقت نفسه. إنه يستند على مبدأ وجوب تطابق المظهر البشري مع الجوهر البشري لما يسميه ماركس ب (الفرد الغني بالقدرات) (rich individual) عبر إخضاع المجتمع والطبيعة لوظيفة إشباع حاجات هذا الإنسان الغني بالقدرات – كل إنسان – والبحث عن التطور المستدام وغير المحدود للطاقات البشرية باعتباره أعلى هدف أخلاقي للبشر. ومثلما تنتج الرأسمالية أجساداً منكسرة وعقولاُ متبلدة، فأنها تغذي أيضاً السلوك الفردي المعادي للمجتمع ككل، وتكبح تطور مشاعر التضامن الاجتماعي للبشر (كمخلوقات من نوع واحد (species-beings))، بتحويلهم إلى (ذرّات) متشيئة ومتنافسة وأنانية لا هم لها غير مصالحها الذاتية، وليكن من بعدها الطوفان.

التعريف بمصطلح (الأخلاق)

يقصد ب(الأخلاق) أو (المنظومة الأخلاقيّة) (ethics) ذلك الحقل الدراسي الذي يختص بالنظريات والممارسات الفعلية التي تبحث في: (الكيفيّة التي ينبغي على البشر أن يعيشوا فيها)، وهو يُعنى بالمُثُل العليا (morals) وبالحقوق (rights). وتنقسم منظومة الأخلاق إلى قسمين: أخلاقيّات (الفضيلة) (virtue)، وأخلاقيّات (الواجب) (duty). تبحث أخلاقيّات الفضيلة في الأجوبة عن السؤال: (كيف يمكن للإنسان أن يكون فاضلاً؟)، وهي تتطلب من الفرد أن يستبدل بالسؤال: (هل يصح أن أتبّع رغبتي هذه؟). سؤال: (هل يصح للإنسان الفاضل أن تتملكه مثل هذه الرغبة؟). أما أخلاقيات الواجب، فتهتم بتحديد المعايير التي تجيب عن السؤال: (ما هو التصرف الصحيح الواجب عليَّ إتّباعه في هذا الموقف أو ذاك؟). والمثال التقليدي لأخلاقيات الواجب هو مبدأ (المنفعيّة) (utilitarianism) السائد في النظام الرأسمالي، والذي هو الموضوع الرئيس لغالبيّة النقاشات الدائرة بصدد الأخلاق في هذا النظام.

ولكل نمط من الأنماط المجتمعية منظومته الأخلاقيّة المتميزة الخاصة به. فالمنظومة الأخلاقيّة الرأسمالية تتجلى في ذلك الفرع من علم الاقتصاد الذي يوظف هذا الشكل أو ذاك من أشكال المنفعيّة. والأخلاق منظومة متحركة تتعرَّض للتفنيد أو النفي الطبقي باستمرار. لذا نجد أن النظام الرأسمالي يعطي الأولوية القصوى لأخلاقيّات (الواجب) على حساب أخلاقيّات (الفضيلة). يصف ماركس هذا التضاد في المنظومة الأخلاقية للمجتمع البرجوازي كما يأتي تحت عنوان (المتطلبات البشرية وتقسيم العمل تحت سلطة المِلْكية الخاصّة) (1844):

(يجب عليك أن تجعل كل ما تملك قابلاً للبيع، أي: مفيداً. فإذا ما سألتَ عالِم الاقتصاد السياسي: (هل أكون ملتزماً بقوانين الإقتصاد إذا ما كسبت المال عن طريق عرض جسدي للبيع بتسليمه لشبق إنسان آخر؟.. أم أنني لا أكون ملتزماً بتلك القوانين إذا ما بعت صديقي (عبداً) للمغاربة؟) عندئذ سيجيبني عالم الاقتصاد السياسي بالقول: (إنك لم تتجاوز بهذين العملين على قوانيني، ولكن راجع ما يقوله ابن عمّنا (الأخلاق) وابن عمّنا (الدّين) بصددهما. أما منظومة أخلاقي الاقتصادية وديني الاقتصادي، فلا يؤاخذانك عليهما بشيء). ولكن بمن ينبغي لي أن أؤمن الآن: بالاقتصاد، أم بالأخلاق؟ إن أخلاق الاقتصاد السياسي هي الامتلاك، والعمل، والبخل، والتقشف – ولكن الاقتصاد السياسي يَعِدُني بتطمين حاجاتي، وأخلاقيات الاقتصاد السياسي هي الوفرة في الضمير الخيِّر، وفي الفضيلة. ولكن كيف يتسنى لي أن أحيا فاضلاً إذا ما تعذّر عليّ أن أحيا أساساً (قوانين النظام الاقتصادي تفرض عليّ الموت من الجوع إن لم أبِع نفسي)؟ وكيف يتأتى لي أن امتلك ضميراً خيِّراً إذا كنت جاهلاً بكل شيء (قوانين النظام الاقتصادي تفرض عليّ الحرمان من العلم)؟ إن من أخص طبائع الاغتراب هو أن كل منظومة تطبِّق عليَّ مسطرة مختلفة ومتضادّة: مسطرة للأخلاق، ومسطرة أخرى للاقتصاد، وكلتاهما تكرّسان غربة الإنسان، وتركّزان على فصم نشاط حيوي أساسي، وكلتاهما يقف على علاقة فصامية مع الآخر؟ وهكذا، فإن السيد ميشيل شيفالييه (ويرمز لمُثُل الفضيلة) يوبِّخ ريكاردو (و يرمز لقوانين الاقتصاد) لكون الأخير يتجاهل المُثل الأخلاقيّة. ولكن كل الذي يفعله ريكاردو هو أنه يسمح للاقتصاد السياسي بأن يتكلم بلغة الاقتصاد نفسها. فإذا ما كانت هذه اللغة لا تنطق بالأخلاق، فإن الذنب في ذلك ليس هو ذنب ريكاردو. فمثلما كان السيد شيفالييه لا يضع بعين الاعتبار الاقتصاد السياسي كلما انهمك في الوعظ الأخلاقي، فإن عليه فعلاً وبالضرورة أن يتجاهل المثًل الأخلاقية عندما يمارس الاقتصاد السياسي.

إن العلاقة بين الاقتصاد السياسي والأخلاق – إن لم تكن علاقة اعتباطية ومشروطة، أي بلا أي أساس ولا أي علمية، وإذا لم يتم عرضها من أجل المظاهر، بل يُراد لها أن تكون جوهرية – لا يمكن إلا أن تكون بصيغة العلاقة التي تربط قوانين الاقتصاد بالمنظومة الأخلاقيّة (و ليس بالعكس). فإذا لم تكن هناك مثل هذه العلاقة، أو إذا كانت الحالة هي بالعكس، فهل بمقدور ريكاردو تفادي ذلك؟ وعلاوة على هذا، فإن التعارض بين الاقتصاد السياسي والأخلاق ليس إلا تعارضاً سطحياً، بل هو في الواقع ليس تعارضاً أبداً بمعنى المعارضة، كل الذي يحصل هو أن الاقتصاد السياسي يعبر عن القوانين الأخلاقية على طريقته الخاصة). إنتهى نص ماركس.

المشكلة

بخصوص عنوان هذه الورقة، فقد برزت خلال القرن الماضي عدة قراءات لماركس تزعم إما: (أ) أن النظرية الماركسية في التغيير الاجتماعي خالية من البعد الأخلاقي، لكونها نظرية مادية وعلمية خالصة، أو (ب) أن مفهوم ماركس للأخلاق يعوزه التلاحم أو الاستمرارية، ففي حين أن الكتابات المبكرة لماركس تثبِت التزاماً أخلاقياً واضحاً، غير أن ماركس ما لبث أن تخلى عن ذلك الالتزام في كتاباته اللاحقة بدءاً من (الأيديولوجيا الألمانية) وما بعدها.

الهدف

الإثبات النصي بأن كل الادعاءات أعلاه – وما يشابهها – هي عارية عن الصحة تماماً، والسبب في ذلك يعود إلى أن المفهوم الماركسي للأخلاق ينطلق بشكل واضح لا لبس فيه من قاعدة كون الأخلاق هي مسألة مشروطة كلياً بالتاريخ، لأنها لا تنتج إلا من خلال الممارسات البشرية الفردية أو المنظمة اجتماعياً. وعليه، فإن معايير الحكم على مدى أخلاقيّة أو لا أخلاقيّة هذه الأفعال أو تلك تختلف باختلاف المراحل التاريخية. ولما كان كل التنظير الأخلاقي لا ينصب إلا على الهدف الأوحد المتمثل بردم الهوّة القائمة بين ما هو (كائن) وبين ما (ينبغي أن يكون)، لذا فإن ردم هذه الهوة ببناء المجتمع الشيوعي الأمثل سيفضي في النهاية إلى إسدال الستار على مثل هذا التنظير الأخلاقي. يشرح لنا ماركس ماهية النمط المجتمعي الأفضل للبشر، وما هي القوى الاجتماعية والسيرورات التاريخية التي يمكنها تحقيق ذلك النمط. وهو يفعل ذلك بعد أن يقيِّم أخلاقياً مختلف النُظم الإجتماعية والنظريات والممارسات البشرية بالاستناد على شرط أساسي واحد: مدى كونها تُرقّي أو تُعيق تعاظم سيطرة البشر الواعية على بيئتهم وتطورهم الاجتماعي.

واعتبر ماركس أن الأيديولوجيا الثورية تلعب دوراً أساسياً في تطور الوعي الثوري، لأن بإمكانها أن تخدم كنبراس ومتراس للاستجابة لردود الأفعال، لذا، فإنه يجب على الطبقة العاملة أن تطوِّر الأيديولوجيا الخاصة بها لتحليل التناقضات الاجتماعية القائمة، ومن ثم تحديد الكيفية التي يمكن فيها التغلب على تلك التناقضات وإنهاء إستغلال الإنسان لأخيه الإنسان بغية السماح بالسيطرة الواعية، والديمقراطية، والعقلانية على الوجود الاجتماعي للبشر أجمعين.

الفرضيات

1. إن مفهوم ماركس للأخلاق قائم على إيمانه بأن كل البشر هم – جوهرياً – كائنات اجتماعية تعاونية قادرة على إنتاج الذات من خلال العمل الاجتماعي الخلاق.

2. إن نقد ماركس العلمي للمجتمع الطبقي هو نقد واعٍ أخلاقياً على طول الخط، وإن مقاربته لهذا النقد تؤسس لمفهوم الطبيعية الأخلاقية (moral naturalism) المنبني على قواعد التحليل العلمي لتطور المجتمع البشري.

3. إن دعوة ماركس الأخلاقية لبناء المجتمع الشيوعي ذي التوجه الواعي نحو إشباع الحاجات البشرية وتطوير الطاقات البشرية تقدم المفتاح الصحيح الوحيد المنطلق من الحاضر والمصمم خصيصاً لغلق الأبواب أمام الحروب والفقر والأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والصحيّة والبيئيّة التي تعصف بكل أرجاء الكرة الأرضية في عالمنا المعاصر.

الطريقة

ستقدم هذه الورقة مسحاً سريعاً وعاماً لنظرية ماركس في الأخلاق، وتشخص الأساس الذي تنطلق منه في تفسيرها لطبيعة البشر وللتغرب بتتبع تطورها في أعمال ماركس من أطروحته للدكتوراه (1840) و(المسودات الاقتصادية والفلسفية) لعام 1844 وإلى آخر مؤلفاته: (رأس المال) وال »رُونْدْريسّه«.

ملاحظة

بغية الاسترسال في تنفيذ خطة هذا البحث (و هو في طور الاستكمال)، أستميح عزيزي القارئ عذراً بأنني سأجيب عن أي استفسار بشأنه بعد الفراغ منه برمته.

* نقلاً عن الحوار (المتمدن)

العدد 1105 - 01/5/2024