عفواً وزارة التربية.. تلاميذنا في مهب رياح الأمّيّة!

كان العلم وما زال من أهم حاجات الإنسان الضرورية، نظراً لما يهبه للحياة من غنىً وتنوع في جميع اتجاهات المعرفة، وذلك من أجل الارتقاء بالمدارك إلى حدود تتناسب وتطور العلوم بتفرعاتها كافة.
يخضع التعليم والتعلّم في كل المجتمعات إلى شروط أساسية كي يصل إلى غاياته في خدمة الإنسانية. من أهم هذه الشروط: الاستعداد النفسي والعقلي، وكذلك تنمية قابلية التلقي والاستيعاب لدى التلميذ، كي يكون قادراً على البحث والتنقيب عمّا يرفد ما يتلقاه من معارف وعلوم في مختلف المراحل الدراسية والأكاديمية.
وانطلاقاً من ذلك، لاسيما في الوقت الراهن، تنوعت أساليب ووسائل التعليم واتجاهاته، كما أصبح في مرحلة الطفولة المبكّرة-ما قبل المدرسة- ضرورة ملحّة يقتضيها تطور المجتمع والفرد على حدٍّ سواء.
غير أننا نجد أن التعليم في العقود الأخيرة صار يأخذ اتجاهات مختلفة لا تخدم الهدف منه على الإطلاق. فقد نشأت في السنوات الماضية وما زالت ظاهرة الدروس الخصوصية، سواء في المدارس أو المنازل، هذه الظاهرة التي ألقت بثقلها على الأهل بما يفوق قدراتهم المادية لما تتطلبه تلك الدروس من مبالغ حلّقت عالياً، خاصةً أثناء الأيام والساعات الأخيرة التي تسبق الامتحان. كما أَرْخت بظلالها السلبية على مستوى التعليم في المدارس، التي تحوّلت إلى مجمعات تهدف منها فقط إلى التقدّم للامتحانات في نهاية العام الدراسي، بعد أن تراجع أداء الكثير من المدرسين في مدارسهم، مقابل ذيوع صيتهم في مجال الخصوصي.
كل هذا في ظل تراخي وزارة التربية، وغض الطرف عمّا يجري، رغم كل الإجراءات النظرية التي نادت بها في معاقبة المدرّس الذي يلجأ لتلك الدروس. إضافة إلى أن التعليم في القطاع الخاص قد انتشر بكثافة في السنوات الأخيرة بأسعار خيالية جعلت من الدروس الخصوصية ملاذاً لذوي الدخل المحدود، في ظل استمرار الوجود في المدارس الحكومية. ورغم كل ما أوردناه عن تلك الظاهرة، إلاّ أن الأمور ما زالت في نطاق المقبول نوعاً، مادام التعليم يرتكز على أسس تدفع بالتمليذ إلى التلقي السليم والبحث عن المعلومات عبر سبل ووسائل تعمل على ترسيخ ما تلقاه ليكون له زاداً وفيراً في حياته الأكاديمية أو العملية. ولكن من غير المعقول أو المقبول إطلاقاً أن يُصبح التلميذ كسولاً إلى درجة يُلغي فيها كل جهد يقوده إلى الهدف من دخوله المدرسة، ألا وهو التعلّم الحقيقي القائم على الجهد الذاتي مترافقاً مع جهد المدرسين والأهل. فقد انتشرت في السنتين الأخيرتين ظاهرة المناهج المحلولة، أو ما يُطلق عليه مصطلح المحاليل التي تطول جميع مواد ومراحل التعليم من الصف الأول الابتدائي إلى الثانوية العامة، خاصة بعد طرح المناهج الحديثة بما تتطلبه من آلية جديدة في التفكير والتمحيص والبحث أكثر عن المعلومة والأفكار، وصولاً إلى الهدف المنشود. وهو تعويد التلميذ على ذلك من أجل ترسيخ المعلومات في ذاكرته بأساليب حضارية وعلمية في محاولة جادة من أجل التخلّص من أساليب التعليم القائم على الحفظ والبصم الذي لا يؤدي الغاية المنشودة من التعلّم.
لقد أذهلتني تلك المحاليل التي لم تترك ولو ثغرة صغيرة أمام التلميذ كي يبذل جهداً متواضعاً للنفاذ منها بمفرده. وإنما هي قائمة على جعل التلميذ أداة نسخ من تلك الكتب إلى كرّاسته المدرسية دون تفكير أو تعب، وبهذا نكون أمام تلامذة هم عبارة عن نسخ كربونية في أداء واجباتهم المدرسية لا مجال أمامها للتميّز أو التفوّق والإبداع، وهذا يقود حكماً إلى وجود أجيال أميّة تكتب ولا تقرأ، وبالتالي موت الفكر والعلم والإبداع في المجتمع الذي لا تنقصه الأميّة والتخلّف العلمي والحضاري.
باعتقادي، إن المسؤولية في ذلك التدهور الخطير على مستوى التعليم تقع على عاتق وزارة التربية بالدرجة الأولى والأخيرة لعدة أسباب أهمها:
– أولاً وقبل كل شيء غياب رقابتها عن كل ما ذكرناه أعلاه، رغم أنها تعرف تماماً ما يجري في كواليس العملية التعليمية سواء داخل المدارس أو خارجها.
– في سعيها الحميد من أجل تطوير المناهج وتحديثها لم تأخذ بالحسبان البنية التحتية للمدارس، التي تُعاني حتى وفق المناهج القديمة نقصاً حاداً، وربما مفقوداً في كثير من المدارس في المناطق والمدن كافة، فلا مختبرات، ولا وسائل إيضاح تلبي المطلوب، ولا حتى مدارس مهيأة من حيث الساحات والحدائق للتعاطي مع العملية التعليمية بما فيها المناهج الحديثة بطرق علمية وتربوية سليمة.
– عدم الإعداد والتأهيل العلمي الصحيح للكادر التعليمي(وغالبيته لم يتقبّل التجديد) من أجل القيام بكامل أعباء المناهج الحديثة، خصوصاً أن الكثير من المدرسين اعتادوا منذ قرون على طريقة إعطاء واحدة قائمة على الإلقاء الخالي من كل تشويق وحب استكشاف لدى التلميذ، وما دورات التأهيل التي قامت بها الوزارة إلاّ من باب رفع العتب، لأن المدرسين عموماً وقعوا في مشاكل لا حصر لا لها بسبب أنهم لم يتعرفوا جيداً إلى تلك المناهج، ولا إلى طرائق التعامل معها ومع التلميذ.
– الانتقال المباغت بالتلاميذ من طرائق معينة ومحددة، إلى طرائق وأساليب جديدة غير مألوفة في التلقي والتعاطي، فهؤلاء التلاميذ أيضاً اعتادوا على طريقة الحفظ المؤقت والآلي فقط من أجل التقدّم للامتحان، ومن ثمّ نسيان كل ما له علاقة بالمنهاج.
ولكن علينا ألاّ نغُفل دور الأهل ومسؤوليتهم عن اللجوء إلى تلك المحاليل، فقد هالني أن الكثير من الآباء في المكتبات يطلبون محاليل جميع المواد الدراسية، وحتى للصفوف الدنيا في المرحلة الابتدائية، رغم اعترافهم بخطورة هذا الأمر على أبنائهم، لكن تبريراتهم قائمة على عدم مقدرتهم العلمية على مواكبة المناهج الحديثة وأساليب التعامل معها من جهة، وضيق الوقت من جهة أخرى، لاسيما في الأسر التي تكون فيها الأم موظّفة.
ظاهرة خطيرة ومرعبة نعرضها ونضعها برسم وزارة التربية حصراً، من أجل تجاوزها بأسرع وقت، ومحاسبة المدرسين القائمين على تلك المحاليل وطرحها في الأسواق مواكِبة للكتب والمناهج المدرسية، وكذلك معالجة الأسباب التي ذكرناها أعلاه بطريقة جدية وحقيقية من أجل الابتعاد بتلك الأجيال والمجتمع عن الوقوع في مهب رياح الجهل والتخلّف العلمي والإنساني. فهل من مجيب؟

عفواً وزارة التربية.. تلاميذنا في مهب رياح الأمّيّة!

 

 كان العلم وما زال من أهم حاجات الإنسان الضرورية، نظراً لما يهبه للحياة من غنىً وتنوع في جميع اتجاهات المعرفة، وذلك من أجل الارتقاء بالمدارك إلى حدود تتناسب وتطور العلوم بتفرعاتها كافة.

يخضع التعليم والتعلّم في كل المجتمعات إلى شروط أساسية كي يصل إلى غاياته في خدمة الإنسانية. من أهم هذه الشروط: الاستعداد النفسي والعقلي، وكذلك تنمية قابلية التلقي والاستيعاب لدى التلميذ، كي يكون قادراً على البحث والتنقيب عمّا يرفد ما يتلقاه من معارف وعلوم في مختلف المراحل الدراسية والأكاديمية.

وانطلاقاً من ذلك، لاسيما في الوقت الراهن، تنوعت أساليب ووسائل التعليم واتجاهاته، كما أصبح في مرحلة الطفولة المبكّرة-ما قبل المدرسة- ضرورة ملحّة يقتضيها تطور المجتمع والفرد على حدٍّ سواء.

غير أننا نجد أن التعليم في العقود الأخيرة صار يأخذ اتجاهات مختلفة لا تخدم الهدف منه على الإطلاق. فقد نشأت في السنوات الماضية وما زالت ظاهرة الدروس الخصوصية، سواء في المدارس أو المنازل، هذه الظاهرة التي ألقت بثقلها على الأهل بما يفوق قدراتهم المادية لما تتطلبه تلك الدروس من مبالغ حلّقت عالياً، خاصةً أثناء الأيام والساعات الأخيرة التي تسبق الامتحان. كما أَرْخت بظلالها السلبية على مستوى التعليم في المدارس، التي تحوّلت إلى مجمعات تهدف منها فقط إلى التقدّم للامتحانات في نهاية العام الدراسي، بعد أن تراجع أداء الكثير من المدرسين في مدارسهم، مقابل ذيوع صيتهم في مجال الخصوصي.

كل هذا في ظل تراخي وزارة التربية، وغض الطرف عمّا يجري، رغم كل الإجراءات النظرية التي نادت بها في معاقبة المدرّس الذي يلجأ لتلك الدروس. إضافة إلى أن التعليم في القطاع الخاص قد انتشر بكثافة في السنوات الأخيرة بأسعار خيالية جعلت من الدروس الخصوصية ملاذاً لذوي الدخل المحدود، في ظل استمرار الوجود في المدارس الحكومية. ورغم كل ما أوردناه عن تلك الظاهرة، إلاّ أن الأمور ما زالت في نطاق المقبول نوعاً، مادام التعليم يرتكز على أسس تدفع بالتمليذ إلى التلقي السليم والبحث عن المعلومات عبر سبل ووسائل تعمل على ترسيخ ما تلقاه ليكون له زاداً وفيراً في حياته الأكاديمية أو العملية. ولكن من غير المعقول أو المقبول إطلاقاً أن يُصبح التلميذ كسولاً إلى درجة يُلغي فيها كل جهد يقوده إلى الهدف من دخوله المدرسة، ألا وهو التعلّم الحقيقي القائم على الجهد الذاتي مترافقاً مع جهد المدرسين والأهل. فقد انتشرت في السنتين الأخيرتين ظاهرة المناهج المحلولة، أو ما يُطلق عليه مصطلح المحاليل التي تطول جميع مواد ومراحل التعليم من الصف الأول الابتدائي إلى الثانوية العامة، خاصة بعد طرح المناهج الحديثة بما تتطلبه من آلية جديدة في التفكير والتمحيص والبحث أكثر عن المعلومة والأفكار، وصولاً إلى الهدف المنشود. وهو تعويد التلميذ على ذلك من أجل ترسيخ المعلومات في ذاكرته بأساليب حضارية وعلمية في محاولة جادة من أجل التخلّص من أساليب التعليم القائم على الحفظ والبصم الذي لا يؤدي الغاية المنشودة من التعلّم.

لقد أذهلتني تلك المحاليل التي لم تترك ولو ثغرة صغيرة أمام التلميذ كي يبذل جهداً متواضعاً للنفاذ منها بمفرده. وإنما هي قائمة على جعل التلميذ أداة نسخ من تلك الكتب إلى كرّاسته المدرسية دون تفكير أو تعب، وبهذا نكون أمام تلامذة هم عبارة عن نسخ كربونية في أداء واجباتهم المدرسية لا مجال أمامها للتميّز أو التفوّق والإبداع، وهذا يقود حكماً إلى وجود أجيال أميّة تكتب ولا تقرأ، وبالتالي موت الفكر والعلم والإبداع في المجتمع الذي لا تنقصه الأميّة والتخلّف العلمي والحضاري.

باعتقادي، إن المسؤولية في ذلك التدهور الخطير على مستوى التعليم تقع على عاتق وزارة التربية بالدرجة الأولى والأخيرة لعدة أسباب أهمها:

– أولاً وقبل كل شيء غياب رقابتها عن كل ما ذكرناه أعلاه، رغم أنها تعرف تماماً ما يجري في كواليس العملية التعليمية سواء داخل المدارس أو خارجها.

– في سعيها الحميد من أجل تطوير المناهج وتحديثها لم تأخذ بالحسبان البنية التحتية للمدارس، التي تُعاني حتى وفق المناهج القديمة نقصاً حاداً، وربما مفقوداً في كثير من المدارس في المناطق والمدن كافة، فلا مختبرات، ولا وسائل إيضاح تلبي المطلوب، ولا حتى مدارس مهيأة من حيث الساحات والحدائق للتعاطي مع العملية التعليمية بما فيها المناهج الحديثة بطرق علمية وتربوية سليمة.

– عدم الإعداد والتأهيل العلمي الصحيح للكادر التعليمي(وغالبيته لم يتقبّل التجديد) من أجل القيام بكامل أعباء المناهج الحديثة، خصوصاً أن الكثير من المدرسين اعتادوا منذ قرون على طريقة إعطاء واحدة قائمة على الإلقاء الخالي من كل تشويق وحب استكشاف لدى التلميذ، وما دورات التأهيل التي قامت بها الوزارة إلاّ من باب رفع العتب، لأن المدرسين عموماً وقعوا في مشاكل لا حصر لا لها بسبب أنهم لم يتعرفوا جيداً إلى تلك المناهج، ولا إلى طرائق التعامل معها ومع التلميذ.

– الانتقال المباغت بالتلاميذ من طرائق معينة ومحددة، إلى طرائق وأساليب جديدة غير مألوفة في التلقي والتعاطي، فهؤلاء التلاميذ أيضاً اعتادوا على طريقة الحفظ المؤقت والآلي فقط من أجل التقدّم للامتحان، ومن ثمّ نسيان كل ما له علاقة بالمنهاج.

ولكن علينا ألاّ نغُفل دور الأهل ومسؤوليتهم عن اللجوء إلى تلك المحاليل، فقد هالني أن الكثير من الآباء في المكتبات يطلبون محاليل جميع المواد الدراسية، وحتى للصفوف الدنيا في المرحلة الابتدائية، رغم اعترافهم بخطورة هذا الأمر على أبنائهم، لكن تبريراتهم قائمة على عدم مقدرتهم العلمية على مواكبة المناهج الحديثة وأساليب التعامل معها من جهة، وضيق الوقت من جهة أخرى، لاسيما في الأسر التي تكون فيها الأم موظّفة.

ظاهرة خطيرة ومرعبة نعرضها ونضعها برسم وزارة التربية حصراً، من أجل تجاوزها بأسرع وقت، ومحاسبة المدرسين القائمين على تلك المحاليل وطرحها في الأسواق مواكِبة للكتب والمناهج المدرسية، وكذلك معالجة الأسباب التي ذكرناها أعلاه بطريقة جدية وحقيقية من أجل الابتعاد بتلك الأجيال والمجتمع عن الوقوع في مهب رياح الجهل والتخلّف العلمي والإنساني. فهل من مجيب؟

العدد 1104 - 24/4/2024