كي لا تقع سورية بين أنياب الذئاب؟

كان اللورد كرومر- السياسي البريطاني ووزير المستعمرات – يرى أن في مقدمة مهامه مهمّته كرجل أبيض أن يغيّر ويعدّل ويصلح من عقول سكان المُستعمرات، بحيث يسيطر على هذه العقول ويجعلها تؤمن أنها لا تتطوّر وتنمو من دون معونة الرجل الأبيض. ومن يتابع سياسة الدول الاستعمارية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية يرى أنها ما زالت تعمل وفق هذه الرؤية من خلال وكلاء وأدوات لها محلية، وهذا هو ما يحدث في سورية من خلال بعض من يسمون أنفسهم معارضة مدعومة وممولة وأجيرة للخارح، وهذه الظاهرة ليست جديدة، فقد حذر منها المفكر العربي زكي الأرسوزي في عام 1966 في مقال له في جريدة الثورة بتاريخ 7/9/1966 بقوله: (إن للاستعمار أعواناً بين ظهرانينا، وكيف لا يكون له أعوان وقد كان بالأمس سيد بلادنا).

ففي الوقت الذي يتسابق رجال الجيش العربي السوري الأبطال لتقديم دمائهم الطاهرة دفاعاً عن الوطن هناك من يتسابق لوضع الخطط والبرامج للاستثمار في دم السوريين، ووضع دماء وأرواح الشهداء في مزاد علني لمصالحه الشخصية، بالتآمر مع دول عربية وأجنبية تحت عباءة مشروع إعادة الإعمار التي تنفذها الشركات العابرة للقارات، فها هي ذي القوى التي كان لها الدور الأساس في العدوان وتهيئة التربة المناسبة تحاول العودة، بعد أن هربت من واجبها الوطني والأخلاقي، لابسة عباءة الأمم المحددة لتمارس تحتها كل موبقات النهب والسيطرة والسرقة مدفوعة من قبل دول عربية وغربية لم تستأذن السوريين، وراحت تضع الخطط لإعمار سورية على طريقتهم الخاصة دون أي اعتبار لرأي السوريين ورغباتهم، كما تفعل ألمانيا والإمارات العربية المتحدة وغيرها، وليس من المستبعد أن يتم اختيار أعضاء الوفود الذاهبة لجنيف من يسمون معارضة من سماسرة الشركات المرشحة لعملية الأعمار، وبالتالي تتم عملية بيع الوطن للسماسرة، فكما باعوا في السياسة يبيعون في الاقتصاد، ونصبح مستعمرة للدول الغربية ومرتزقتها، فما عجزوا عن أخذه بالسياسة والحرب يخططون لأخذه بالاقتصاد. وعلى سبيل المثال ما حمله النائب الاقتصادي الأسبق عبدالله الدردري والتي عُرفتْ، إعلامياً، باسم خطة مارشال سورية، تيمناً باسم خطة إعمار أوربا بعد الحرب العالمية الثانية وهو مشروع ينطلق من التسليم بحتمية الهزيمة العسكرية والسياسية لخطة إسقاط سورية دولة وقيادة، ما يطرح، بدء العمل على الخطة التي تتمثل باستغلال حالة الإنهاك التي ألمّت بسورية، وحاجتها إلى المصالحة الداخلية، وتسريع إعادة الإعمار، ما يفتح الباب أمام نجاح الغرب والخليج وتركيا في إسقاط سورية اقتصادياً، والسيطرة على مواردها ومقدراتها من خلال فرض سيطرة النهج النيوليبرالي، بالكامل، على البلاد، بما في ذلك الخصخصة الشاملة، وتحرير السوق وحركة رؤوس الأموال، وتركيز الاستثمارات الأجنبية في القطاعات الأكثر ربحية، قطاعات البنى التحتية والعقارات والسياحة والمال ومن العواقب المعروفة لهذا النهج إغراق البلاد بالمديونية والعجز المالي، وتدمير المؤسسات الإنتاجية في الصناعة والقطاعات الحرفية، وتفكيك الإنتاج الريفي الزراعي، وتحويل سورية من دولة وطنية تنموية  مع ما فيها من تشوّهات إلى دولة كمبرادورية بالكامل، تفقد استقلالها الاقتصادي النسبي… وهو ما يقوّض، بالضرورة، استقلالها السياسي، لأن هذا النهج سيجعل سورية تابعة للقوى الإمبريالية ومراكزها الخليجية، لأن سياسات من مثل تمويل تسليح جدي للجيش العربي السوري، والمقاومة السياسية والعسكرية في الجولان المحتل، ودعم المقاومة اللبنانية والفلسطينية الخ، ستتفكك من تلقاء نفسها.

إن المطلب الأول لكل الوطنيين والسوريين الشرفاء هو عودة الأمن والأمان للوطن،والقضاء على العصابات المجرمة، والحفاظ على حياة الناس، و الانتقال إلى معركة البناء الوطني، التي تشمل بناء البشر والحجر معا، من أجل ترسيخ سورية الديمقراطية المتطورة الحضارية، التي يسود فيها القانون، وتعلو دولة المواطنة الحقة، الدولة المُحررة لأراضيها واستعادة حقوقها الوطنية والقومية، وهذا يتطلب:

– الانتباه للشباب ومشاركتهم في عملية البناء، وإعطائهم الأولوية بالقضاء على البطالة، وتوفر الإرادة والإدارة والمناخ التنموي المناسب والموارد والإمكانات، ومكافحة الفساد والتسيب والهرب من المسؤولية، ومحاسبة كل المرتكبين بحق الوطن المقربين والبعيدين، ووضع السياسات والآليات التي تمكننا من الحصول بالموارد المتاحة على أكبر منفعة وأقصى إشباع منها، أي السياسات التي تؤدي إلى الاستقرار والتنمية، واستثمار الإمكانات الطبيعية التي ما زالت بكراً في هذا الوطن، والابتعاد عن التصدير لهذه المواد بشكل خام، وذلك بإقامة الصناعات المحلية التي تدر عملة أجنبية وتقضي على البطالة، وتحقيق الاكتفاء الذاتي والبحث عن ممولين آخرين لم تتلوث أيديهم بدماء السوريين ولم يساهموا في تدمير سورية والحرب عليها فكرياً وإعلامياً واقتصادياً وعسكرياً، والتوجه للدول التي وقفت معنا في مواجهة العدوان، مثل دول البريكس وإيران والصين وروسيا، وهم قادرون، إلى جانب خبرائنا الوطنيين وشباب سورية، على بناء سورية، مزنرة بالكرامة والسيادة ووفية لدماء شهدائها الأبرار.

– يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن التطبيق الجزئي لسياسات الخصخصة والانفتاح الاقتصادي مع الغرب والخليج وتركيا كان السبب الرئيسي وراء الخلل الذي حصل في علاقة السلطة بالقاعدة الاجتماعية التقليدية في صفوف الفلاحين والحرفيين والعمال، ممن عانوا، في صدمة نيوليبرالية قاسية خلال النصف الثاني من العقد الماضي، أسوأ مظاهر البطالة والفقر والتهميش… ذلك أن نسبة العاطلين عن العمل حالياً في سورية30 بالمئة (بحسب جريدة البعث العدد 14836- 3 تموز  2013)  نتيجة ما يمكن تسميته اقتصاد العنف الذي ساهم في تكريسه بعض الخونة في هذا الوطن، وهو ما شكّل الأرضية الاجتماعية لقدرة القوى الرجعية المعادية لسورية على اجتذاب أقسام من القوى الاجتماعية الشعبية وراءها وشحنهم طائفياً، وتجنيد الآلاف منهم في الجماعات الإرهابية؛ فما الذي سينتجه، إذاً، تطبيق كامل وغير مشروط، لتلك السياسات النيوليبرالية؟

– إن القوى الأساسية التي دافعت عن الجمهورية العربية السورية، ونظامها الوطني، وبذلت الدماء في سبيلهما، تتمثل: أولاً بضباط وجنود الجيش العربي السوري المنتمين إلى الفئات الكادحة، ثانياً بمجموعات الشباب من ذوي النزعات الوطنية والتقدمية، ثالثاً بالتيارات اليسارية والقومية رابعاً بقوى البرجوازية الوطنية من الصناعيين السوريين الذين آذاهم الانفتاح على تركيا. هذه القوى تأمل أن يكون انتصار سورية، بعد العدوان، فرصة لتصحيح المسار الاقتصادي  الاجتماعي نحو التنمية الوطنية والديمقراطية الاجتماعية،..وستكون هذه القوى الأربع هي الأكثر تضرراً من سيطرة النهج الكمبرادوري، لأنه يتجه، موضوعياً، إلى تقليص الإنفاق العسكري، ويفاقم نسب البطالة للفئات الشعبية والمتوسطة معاً، ويحطّ من مستوى حياة شبيبة الطبقة الوسطى، ويدمّر المشاريع الصناعية، وهذا سيكون الضربة القاضية لسورية المقاومة.

وعلينا الانتباه ألا يربح الأعداء في الاقتصاد والثقافة والاجتماع ما عجزوا عنه في السياسة والعسكر، لأن مستقبل سورية الاقتصادي مرتبط بمصيرها السياسي، فإذا ربح الخط الوطني العروبي ربحت سورية والشعب والفقراء وكل شرفاء الأمة، وإذا ربح المرتزقة والخونة والسماسرة والقوى المعتدية، ذهب دم الشهداء هدراً وضاعت كرامة الوطن والشعب، وفقدت سورية سيادتها وأصبحت مختطفة من قبل بعض الضباع الذين تسلقوا بحماية الذئاب الغربيين، وبالتالي علينا كما يقول زكي الأرسوزي: أن يبقى الجواسيس في أمكنتهم الطبيعية، البلاليع، لا أن يصولوا ويجولوا في الميادين العامة، أبرع الشعوب في استخدام الجواسيس اشتقت اسمهم من (جردون) ويجب أن يبقى الجاسوس عندنا في حدود ما أهلته له الطبيعة

إن سورية ما بعد الأزمة، لن تكون إلا للذين قاتلوا دفاعاً عنها، ولمصلحة الشباب والعمال والفلاحين والصناعيين الوطنيين، وفي خط الاستقلال والتنمية الوطنية والمقاومة، وقلعة للمناضلين والمقاومة وبلداً لأبنائه الذين ضحوا من أجله، لا للذين يتعاملون مع الوطن بوصفه فندقاً سياحياً.

العدد 1104 - 24/4/2024