العاملة السورية ما بين أزمة المواصلات وتعاميم التقيّد بالدوام

في جميع الظروف والأزمات التي تنال من الحياة اليومية للناس، تبقى المرأة دافع الضرائب الأكبر في المجتمع، بحكم وضعها في الأسرة كأم وزوجة، وفوق كل ذلك هي على الغالب عاملة خارج البيت.

ففي ظل الأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد، ونتيجة للأوضاع الأمنية التي تحيط بالكثير من المناطق، قررت الحكومة منذ زمن إلغاء وسائط النقل الجماعي للعاملين في الدولة، لاسيما لمناطق الأرياف، بسبب تعرض تلك الوسائط إما للخطف أو الحرق، وهذا ما خلق للعاملين عامة، والمرأة خاصة أزمات نفسية واجتماعية لا متناهية. وللتخفيف من إيقاع هذا الوضع، لجأ المسؤولون إلى تبرير التغيّب عن العمل أحياناً في المناطق الساخنة التي تفرض أوضاعها على الناس عدم التمكّن من الخروج. لكن مع نهاية عطلة عيد الفطر من هذا العام، صدرت عن بعض الوزارات والمؤسسات والمديريات تعاميم تطلب من جميع العاملين التقيّد بالدوام الرسمي، الذي يبدأ بالثامنة صباحاً وينتهي في الثالثة والنصف بعد الظهر، كما أُلغي تبرير التغيّب عن العمل مهما كانت الظروف.

هذه الأوضاع والظروف مجتمعة ألقت بظلالها وثقلها على المرأة العاملة نفسياً وجسدياً، ولأن أزمة المواصلات بدمشق كما هو معروف للجميع من الأزمات الدائمة والمستعصية، خاصة أثناء العام الدراسي، إذ تتعاقد معظم وسائط النقل مع المدارس من أجل نقل الطلاب والمدرسين، إضافة إلى دوام الجامعة والمعاهد الذي يُفاقم من حدة  الأزمة، لاسيما في فترتي الذروة الصباحية والمسائية. ففي هاتين الفترتين يكون الصراع على أشدّه من أجل تأمين ركوب، مهما كان، بمعنى أن تجلس القرفصاء أو على الدولاب أو الجانب الفارغ، أو أن تقف منحني الرأس والظهر. وغالباً ما تكون الرحلة وقوفاً في الباصات صباح مساء، أو يتطلب الأمر استخدام الحافلة في الصباح استخداماً مزدوجاً، بمعنى أن الركوب يكون من آخر الخط إلى أوله ومن ثمّ الانطلاق نحو المدينة، مما يُضاعف تكاليف المواصلات اليومية التي باتت مع غلاء المازوت وفقدانه المستمر مضاعفة أساساً بلا حسيب أو رقيب.

فتخيّل هذا الوضع بالنسبة للإنسان عامة، وكم هو مؤذٍ لإنسانيته وكرامته، فكيف هو مع المرأة..؟ هذا كله بعيداً عن التأخير الدائم والمستمر عن العمل في الصباح، وعن البيت ما بعد الظهر، تأخير يستوجب المساءلة الإدارية وتسجيل التأخّر إن لم يكن الغياب في العديد من الوزارات والدوائر، وبالتالي الحسم من الراتب أو الإجازات الإدارية. إضافة إلى أن التأخّر عن البيت يخلق للأطفال قلقاً مترافقاً مع البقاء ربما عند الجيران إن لم يكن بلا طعام ريثما تأتي الأم. لأن أسرع رحلة وصول للعمل يومياً تستغرق على الأقل ساعة ونصف، إن لم يكن ساعتين ذهاباً ومثلهما إياباً.

بعد كل هذه المعاناة، يكون على الأم أو الزوجة متابعة أمور البيت، من تنظيف وتحضير للطعام وباقي المتطلبات الأسرية، ناهيك بمتابعة الواجبات المدرسية للأبناء، وضع يتوِّجُهُ عدم قناعة المجتمع بضرورة مساعدة الزوج في الأعمال المنزلية، أو الإشراف على تعليم الأطفال. فالمرأة هي المطالبة أولاً وأخيراً بجميع هذه الأعباء غالباً، إذ لا تتعدى نسبة الأزواج المتعاونين 10%. فلنتخيّل الحالة النفسية للمرأة في ظل هذا الوضع الذي يفرض عليها توتراً وقلقاً دائمين، مما يُشعرها بالذنب تجاه أطفالها، فيدفعها لتعويضهم عن غيابها، بأن تميل غالباً للتساهل السلبي معهم حتى تكون أماً صالحة بنظرهم، وهذا خطأ جسيم في التربية. 

يُضاف إلى كل هذا الأوضاع الاقتصادية المتردية التي فرضت غلاءً فاحشاً،إذ بات تدبير أمور المعيشة في ظلّه عبئاً ثقيلاً ومريراً يُرخي بثقله على المرأة التي تتأثر به أكثر من غيرها، باعتبارها المسؤولة عن تأمين مستلزمات الأسرة من طعام وملبس وغيره. فتُعاني الغربة والضغط النفسي والإرهاق العملي الناتج عن تحملها ما يفوق طاقتها وقدراتها. وعندما يصبح الانفعال مزمناً ولذات الظروف واستمراريتها، والتوهم من وقوع مشكلة أسرية أو مهنية، أو اجتماعية، فإنه يتحول إلى مرض عضوي.

إن مجمل هذه الظروف والأوضاع، تُحتّم على المسؤولين والمعنيين في الحياة الوظيفية تدارك الأمر من خلال جملة من القرارات التي تتلاءم ووضع العاملة الأم/ الزوجة بما يتناسب والوضع الأمني السائد بالبلاد، كأن يُتعاقد مع حافلات نقل من القطاع الخاص أسوة ببعض الجهات(الجامعة مثلاً) التي لجأت إلى هذا الحل، والتي يتم فيها نقل العاملين من وإلى أماكن عملهم وسكنهم، خاصة في المناطق البعيدة، إضافة إلى ضرورة المرونة في التعامل مع العاملة الأم حصراً، خاصة أننا في بداية العام الدراسي الذي فُرض فيه هذه السنة الدوام النصفي للكثير من المدارس والمناطق بحكم وجود نازحين في هذه المدارس، وبالتالي فرض على الأم والأطفال الذهاب إلى المدرسة في غيابها، وعودتهم مساءً في وقت لم تعد الأم ولا الأطفال قادرين فيه على الوفاء بالتزاماتهم المدرسية بسهولة.

العدد 1105 - 01/5/2024