التَّدرب على الموضوعيّة

الذّاتيّة أو الموضوعيّة هما أسلوب من أساليب السّلوك البشري، ينهجها الإنسان بالتّربية لا بالوراثة، فالإنسان يعيش في مجتمع الأسرة أو المدرسة أو العمل… وهو محصلة لهذه المجتمعات الّتي يعيش فيها. لذلك يؤكّد قادة المجتمع أهمية الدّور الّذي تلعبه التّربية في بناء الإنسان، وتوجيه سلوكه في الحياة والعمل، فهي -أي التّربية- تُساعد الإنسان على وضع الحدود المناسبة لتصرفاته.

التّربية من الطّفولة

إنّ نمط الحياة داخل الأسرة يُساعد الأطفال مساعدة كبيرة على اختيار الأساليب الأفضل أو الأسوأ لتصرفاتهم، فالأسرة الّتي تُميّز بين أولادها، تُنمي في نفوسهم منذ الصّغر الاتجاهات الذّاتية والصّراعات الدّاخلية. فالتّربية العقلانية ليست مجرد أسلوب نظري، ولكنّها طريق عملي في الحياة، لأنّ الأطفال يتعلمون من والديهم. فالتّربية هي تدريب على الممارسة العقلية، والتّفكير التّكاملي، والطّفل الّذي يتعوّد منذ طفولته على الحوار، والتّفكير العقلي، سيستمر بذلك.

لذلك يؤكّد المختصون ضرورة أن يهتم الوالدان بالأسئلة الّتي يطرحها طفلهما لأنّها وسيلة مهمة من وسائل تعليمه، كما أنّ الرّد الصّحيح والعاقل، يُساعد الطّفل خلال مراحل نموّه وتطوره على اكتساب التّفكير العقلاني بشكلّ إيجابي.

بعد الأسرة يأتي دور المدرسة في التّوجيه، فهو يخرج عن دائرة أسرته ويبدأ يتأثر بأشخاص آخرين، فما يتعلّمه من معلميه يؤثر تأثيراً كبيراً في تصرفاته. كما يبدأ الأطفال في هذه المرحلة بالتقليد سواء في اختيار الكلمات أو في اللّعب، والخلافات الّتي تحدث خلاله، وهنا يأتي دور الأسرة في الأسلوب الّذي تعتمده مع الطّفل عندما يعود إلى بيته، فإما أن تشجعه على ممارسة الصّواب، أو تعزز لديه التّصرف السّلبي الّذي سيتحوّل مع مرور الوقت إلى عادة متأصلة فيه.

بناء الثّقة بالنّفس

يحتاج الإنسان إلى أن يبني ذاته وأن يبني ثقته بنفسه، فالثّقة بالنّفس تجعل الإنسان قوياً كالصّخر، أمّا الذّاتي فتجعله ضعيفاً لشعوره بالنّقص نتيجة الرّواسب الّتي خلّفها بداخله، فنتج عنها عدم تقبّل الآخر، وعدم تعامل الإنسان مع هذه الرّواسب تعاملاً صحيحاً كي يتمكّن من التّحرر منها، تطورت لديه لتشعره بأنّه إنسان فاشل، ودفعته ليقارن نفسه مع أشخاص ناجحين أكثر منه دون أن يعمل على تغيير أيّ شيء من الرّواسب الّتي بداخله.

لذلك من الضّروري أن يتعلّم الفرد منذ طفولته كيفية بناء علاقة صحيحة مع الذّات تُمكّنه من تقييم نفسه بقدر كبير من الموضوعية، لأنّه يستطيع أن يحدّد سلوكه الخاطئ ويعمل على تصحيحه لا أن يتمسك بالوقوف عنده وتبريره، وبهذه الطّريقة تنمو وتتطور الشّخصية النّاضجة، فالإنسان النّاضج يعرف أن يختار لنفسه من الأمور ما يستطيع القيام به، ويرفض ما لا يتفق معه، لأنّه لا يستطيع القيام به بنجاح، ولا يرى في ذلك عيباً أو نقصاً.

تقبّل الذّات والواقع

من الأسس العامة لبناء الثّقة بالنّفس أن يتدّرب الإنسان على أن يتقبّل ذاته كما هي، وقبوله لذاته يدفعه للتقدّم والنّموّ والنّضج، فالإنسان النّاضج يقبل نفسه بميزاتها وعيوبها، ويحاول أن يبني نفسه وأن يعالج ما يستطيع معالجته من عيوب موجودة بداخله، فالإنسان الصّادق مع نفسه يقبلها كما هي بواقعها، ويجد لنفسه مخارج تساعده على تفادي عيوبه وتربية ذاته لما هو أفضل. هذا لا يعني جمود الإنسان، ورفضه التّطور، فإنّ قبول الإنسان لواقعه، هو نقطة الانطلاق للطموح. وهو بذلك يختار الطّموح في المجال الّذي يتفّق مع قدراته وكفاءاته، وبهذه الطّريقة يحقق الطّموح النّاجح.

التّدريب على المشاركة

تُساعد المشاركة الفرد أن يضع نفسه مكان غيره ويشعر معه، وبذلك يرى الموقف كما يراه الغير، فمتى درس الموقف من مختلف وجهات النّظر كان عادلاً في حكمه. تفسح المشاركة المجال أمام الإنسان ليتكيّف مع برامج الآخرين وشخصياتهم المختلفة، فلا يستطيع اثنان أن يعملا معاً دون أن يكون أحدهما مستعداً للتنازل عن بعض أساليبه في سبيل التّكيّف مع الطّرف الآخر. فيعمل الإنسان على زرع شيء من المرونة بداخله، إلى درجة كافية لسير العمل، وتقدّمه.

بناء قيّم سلوكيّة وتثبيتها

إنّ تربية الإنسان على قيم سلوكيّة سامية تجعله ثابتاً في مواجهة الانحرافات، والخلل في القيم والارتباطات. لأنّ تربية الإنسان على النّضج والأمانة والنّزاهة والحقّ والاستقامة تدفعه لأن يعيش هذه القيم مهما أصابه. وكلّما عاش الإنسان القيم السّامية كان أقرب إلى الموضوعيّة منه إلى الذاتية، فالّذي يُعلي قيم الحقّ يهمه الحقّ حتّى ولو على نفسه. فالتّربية السّليمة على قيم أخلاقية سامية تدفع الإنسان لحياة أفضل.

محاولة الفصل بين العلاقة الشّخصيّة وعلاقة العمل

تظهر العديد من المشكلات نتيجة الرّبط بين العلاقة الشّخصيّة وعلاقة العمل، بسبب ذلك تبدأ المحسوبية بالظّهور وتغلّب الصّالح الخاصّ على الصّالح العام.

تدفع الموضوعية الإنسان لأن يناقش الموضوع لذاته، دون إهانة أو سوء في الأدب، وهي أسلوب ناضج راق متحضر فيها يظهر الصّالح العام فوق الصّالح الخاصّ. والتّربية على الموضوعيّة تحتاج إلى وقت كافٍ، يتدّرب فيه الإنسان على مواجهة المواقف ومواجهة الآخرين، إنّ ممارسة الموضوعية في الحياة العملية بقدرٍ كافٍ تُساعد على تقدّم العلاقات الإنسانية في حركة النّشاط الإنسان،ي وبالتّالي تدعم تطوّر المجتمع تطوراً إيجابياً.

العدد 1104 - 24/4/2024