خالد القلّيح اليساري المتعدد المواهب.. في ذمة الخلود

رأت عينا خالد القليح النور في ديرعطية عام 1922 وأدركته المنية في هذه الأيام الصعبة من صيف 2014. وهو يتحدر من عائلة فلاحية أصيلة كانت تمارس إلى جانب الزراعة مهنة الرعي مورداً لعيشها.

لكاتب هذه الأسطر لقاءات عديدة مع أبو أمين، كانت مصدراً له أثناء تحضيره لكتاب تاريخ ديرعطية.

ثمّ تكرّم و أطلق يدي في مذكراته للاستعانة بها لتدوين تاريخ ديرعطية. وقد تناثرت معلومات كثيرة مأخوذة من المذكرات في ثنايا فصول كتابي الصادر عام 2002 عن المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق، بعنوان:

(ديرعطية التاريخ والعمران.. من الوقف الذري إلى المجتمع المدني – أواخر القرن الثالث عشر – منتصف القرن العشرين).

بدأ القليح كتابة مذكراته عام 1980. واستمر مع فترات متقطعة يدوّن ما يتذكره، أو ما سمعه من أفواه المسنين أو نقلا عنهم. وهذه المذكرات مكتوبة بخط القليح وأحياناً بخطوط أقرباء له. وهي مؤلفة من ثمانية دفاتر. محتوى هذه الدفاتر نجده ملخصاً في كتاب ديرعطية، وسنكتفي هنا بعرض لقطات من حياته العامرة بالنضال.

ولنترك القليح يروي لنا ما جرى له أيام الدراسة عند الخجا:

(في ربيع 1929 كانت والدتي تعول بالأغنام وتبعد عن اسرتها مسافة أربع ساعات سيراً على الأقدام حين كنت طفلاً في السادسة من عمري. وذهبت إلى عند الخجا وكنا نجلس على الجلود، التي يختبئ داخل صوفها القمل لينتقل من طفل إلى آخر. وكنت داخل البيت أحكّ جسمي بعنف بواسطة أظافري… في هذه الأثناء حضرت عمّة لي… وشتمت والدتي لماذا تركتني هكذا؟ لماذا العِلم ؟… وصل الخبر إلى والدتي المسكينة وطلبت بنقلي إليها وتركتُ الخجا. فأركبني والدي على ظهر حمار أسود ضخم الجثة، وركب هو على ظهر بغل…).

ويمضي القليح ذاكراً في مذكراته أن والده كلفه برعي الخراف الصغيرة… ومع بداية عام 1931دخل خالد القليح مكتب الشيخ غنوم، الذي كان أرقى من مكتب الخجا بنت قطنا. وكان مكتب الشيخ مؤلفاً من غرفة واحدة يجلس فيها التلاميذ القرفصاء على الأرض في خمسة صفوف… (ثمّ) انتقل إلى مكتب الشيخ محمد شريف القصاب، ومن ثمّ إلى مدرسة المعارف الرسمية ومعلمها الأستاذ زكي التجار. وهنا أتمّ خالد الصف الأول فقط، وكفى أطفال ذلك الزمن (شر) التعليم. فالعمل في الحقول والبراري ينتظرهم، قبل بلوغهم سنّ العاشرة. هذه هي مراحل تعليم طفل العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين. ومع ذلك نجد خالد القليح يقوم ابتداء من عام 1980 بعمل ريادي بالنسبة لأبناء جيله، في كتابته للمذكرات.

(إن الغاية من هذه المذكرات) – كما كتب القليح – (هي معرفة الإنسان وما يعترضه خلال حياته من مصاعب تكون درساً ونبراساً للأجيال والشباب الذين عاشوا في رحاب وأحضان أوليائهم بعيش رغيد. يفهمون الحياة كما عاشوا يقدم لهم أولياؤهم كل ما يشتهون دون قلق وتفكير بمستقبلهم. إنهم ما أمضوا يوماً على ظهور الحيوانات، ولا أتاهم الثلج والريح وهم سائرون بالليالي، ولا ساروا بالبرد القارس لجمع الحطب من أجل التدفئة من الجبال والوديان، ولا عرفوا النضال المرير من أجل خدمة الصالح العام، ولا دخلوا السجون والبق امتصّ دماؤهم، ولا السياط مزّقت لحومهم وأورمت الأجساد. إنّ شقاء فرد من الناس يجب أن يكون درسا لجميع الأفراد ليقدّروا ويعملوا ما يتطلبه العيش والحياة).

يستغرب القارئ كيف تمكّن القليح من كتابة مذكراته، ونقل ما عاشه أو سمعه من الآخرين، وهو لم يتعلم إلا في الكتاتيب وفي الصف الأول من مدرسة إبتدائية. ويزول عجبنا عندما نقرأ المذكرات ونرى اندفاع القليح نحو الحزب الشيوعي ورغبته في قراءة مطبوعاته وكتبه. (فمدرسة الحزب الشيوعي) كانت المرحلة الثانية من تعليم خالد القليح القراءة والكتابة، وبالتالي تحسين مستواه الفكري، ورفع أدائه السياسي.

وعلى الرغم من ذلك فالقليح يعرف ويعترف أن لغته الكتابية ومستواه العلمي لا يسمحان له بكتابة مذكرات بلغة سليمة ومنهج منظم. ولهذا يبدأ مذكراته المعبِّرة وذات المغزى العميق بالفقرة التالية:

(حديثنا لنبدأ به عن تاريخ بلدة ديرعطية الاقتصادي والسياسي بدءاً من أوائل الثلاثينيات. وقد تكون كتابتنا هذه أشبه بالخامات الأولية تحتاج إلى التصفية والتنقية… وليس أنا بكاتب… ولكن قد علمني دهري. وآمل من القراء الكرام أن يصححوا لي أغلاطي بدون تهكم أو مأخذ).

سيجد المهتم عرضاً لمذكرات القليح في دفاتره الثمانية في كتابي عن تاريخ ديرعطية وهو موجود في مكتبات: المركز الثقافي، البلدية، المتحف، مشفى ديرعطية. وكنت قد أهديت الكتاب لأكثر من مئة وخمسين شخصاً، وفي مقدمتهم فقيدنا.

ولا بدّ من الإشارة إلى أن مذكرات القليح تتميّز بتَتَبُّعِها الدقيق لأسماء أدوات الحراثة والجر، التي أصبحت شبه مجهولة من الجيل الحالي، بعد أن طواها الزمن. وقد قام القليح برسم بعض هذه الأدوات، كي يقدم للأجيال القادمة صوراً حيّة عن حياة الماضي. كما قام برسم خرائط لمعاصر الدبس المندثرة وأقنية المياه. وكان نهر ديرعطية في فترة من الزمن جزءاً من حياة القليح ونضاله الدؤوب في سبيل إصلاح النهر والمحافظة علية لإرواء الأراضي. وهذا الالتصاق بالطبيعة والأرض والضيعة تعبّر عنه أيضا الأمثلة الشعبية الكثيرة، التي رواها القليح بلغتها الأصلية، وقام في كثير من الأحيان بشرح بعضها. فحفظ بهذه الطريقة جزءاً من التراث الشعبي، الذي كاد يندثر.

غاصت المذكرات عميقاً في المجتمع الديرعطاني، وتعرّضت للحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية في ديرعطية، وتحدثت عن أسماء لا يسمح الوضع الديرعطاني الحالي بنشرها،على الرغم من أن كثيراً من الأحداث قد عفا عليها الزمن. فمجتمعاتنا العربية، وبخاصة الريفية منها، لا تزال تضع المحرّمات على كثير من أحداث التاريخ ووقائعه، وبخاصة في هذه الأيام مع تراجع المشاعر الوطنية وانتعاش العشائرية والعائلية والمذهبية و الطائفية.

ويبدو أن القليح كان مدركاً لهذه النواحي. فهو يروي كثيراً من الأحداث دون الإشارة إلى الأسماء، لأسباب رآها ضرورية من وجهة نظره. ولاحظت من خلال لقاءاتي معه أنه كان حريصاً ألا تقع مذكراته في أيد تعبث بها…

***

أدى خالد القليح مع زوجته فريضة الحج. وعندما زرته مهنئاً أهدتني أم أمين مسبحتين لي ولزوجتي، بعثتا السرور في نفسينا. وفي اليوم التالي قمت بزيارة الأستاذ عبد المجيد التجار (أبو رضا) لتهنئته أيضاً بعد عودته من الحج. والأستاذ عبد المجيد كان في خمسينيات القرن العشرين الوجه القيادي في حزب البعث، كما كان خالد القليح الوجه البارز في الحزب الشيوعي. وأثناء الحديث اقترحت، ممازحاً، على أبي رضا أن يكتب كراساً بعنوان: (زعماء اليسار في ديرعطية يحجون إلى بيت الله الحرام).

***

عندما داهمت أمراض الشيخوخة أبا أمين رجوت عدداً من أقربائه أن يخبروني هاتفياً إلى دمشق في حال وفاته، كي أشارك في تشييع جنازته، وفاء لما قدّمه لديرعطية وللصالح العام من خدمات.

وشاءت الأقدار أن أكون في الغربة عندما حل الأجل. قرأت الخبر على صفحة الصديق الوفي أحمد حسن، وجاء تأكيد الخبر في كلمة التعزية لأديبنا إسكندر نعمة، أعاده الله وأعادنا إلى ربوع ديرعطية. كلمة إسكندر لخّصت حياة الفقيد بأنه (كان مثقفاً وعاملاً وفلاحاً ومصلحاً اجتماعياً وسياسياً مرموقاً).. وهنا عادت بيَ الذكريات إلى أيام النهوض الوطني العربي في أواسط القرن العشرين، حين كان خالد القليح رمزاً وطنياً مناضلاً لتحقيق العدالة الاجتماعية، ووجهاً مبدعاً يسعى لصالح أبناء (ضيعته).

سقى الله تلك الأيام… وكلي أمل، رغم نائبات هذه الأيام وأحداثها الكارثية، أن تنعم الأجيال المقبلة بوطن حر وشعب سعيد. وهذه هي أمنية خالد القليح أيام شبابه وفي نضاله المفعم بالتضحية، تحت راية الحزب الشيوعي الصاعد في منتصف القرن العشرين، والذي أصابه ما أصاب اليسار عموماً من هبوط نتيجة خراب بنى المجتمعات العربية في الحقبة النفطية وبترودولارها، أحد أسباب كوارثنا الحالية.

العدد 1102 - 03/4/2024