زهرة القمح

دائماً يخبئ القمح زهره ليتجاوز مشكلة الغرور، فهو لا يغترّ بما يغتر به أصدقاؤه. القمح نبات متواضع وغني، يحمل ثراؤه كنوزاً مخفيّة بين حناياه. فحين نحكي عن التواضع ننشد للسنابل الملأى، وحين يذكر اسمه يأخذنا سريعاً إلى أرغفة تُقاس على أساسها نسب الجوع والشبع لدى كثير من أمم الأرض.

القمح رمز أسطوري في الحضارات القديمة، وهو كذلك في الحضارات التي تلتها، ولا يزال يؤسس لحكايات لن تنتهي، حكايات تلتصق بالمقدرة العجيبة على مقاومة الموت. وما زلنا نذكر ذلك الجندي البطل الذي استشهد وهو يحمل رغيفاً يابساً في عبّه، هو لم يفعل ذلك إلاّ يقيناً بأن لقمة من الخبز تساعده على الصمود أكثر، فهل كان في لا وعيه أمر آخر منقول من أجداده الأقدمين الذين أسطروا القمح وجعلوه رمزاً؟

والقمح لا يغيب عن ذاكرة المزارعين، فلمواسم الحصاد والجني أغنياتها الخاصة، وقلّما ينتهي يوم حصاد دون قصة حب جديدة، أو دون نهاية مفرحة لحكاية امتدت على طول أيام الحصاد. أهل الأرياف يعرفون ذلك، فهو في الذاكرة نبض لا يغادرها، ينهض كل حين ساحباً معه المزيد من المواويل والعتابا. للأرياف طريقتها في تقسيم الأعمال والمهام، فالمرأة على سبيل المثال نادراً ما تحمل المنجل وتحصد، هذه مهمة الرجل، والرجل أيضاً نادراً ما يغمّر خلف الحصادين، فذلك عمل المرأة.

الرجل الريفي لا يحمل أكداس القمح فوق رأسه، فذلك عيب في قوانين الزراعة والمزارعين، المرأة هي التي تحمل القمح وتنقله إلى البيادر، لم تحمل لنا الأساطير سرّ هذا التوزيع للعمل في الأرياف، حتى ليخيّل إلينا الغبن الواقع على المرأة الريفية نوعاً من الظلم الذكوري لنساء الرجال. وإن كانت الحكايات التي تُروى، والقصص التي تُؤلّف تربط ذلك بمفهومَيْ النشاط والكسل، فالنملة النشيطة تجمع حبّات القمح، والصرصور الكسول يحاول تقاسمها مع النملة التي ترفض بإصرار أن تعطي تعب يمينها لغير أولادها.

كم من النباتات تحمل توازناً في تناسب القيمة بين الزهر والثمر؟ وكم من الأزهار الجميلة تنتج لنا ثمراً طيباً ومفيداً؟ أعتقد أن الجواب هو قلّة من الزهر الجميل، أو ندرة منه تعطي ثماراً غنيّة. هل تلك حكمة؟ إن النبات يمنح الغنى من طرف واحد، إما من الزهر، وإما من الثمر. وعلى الرغم من المحاولات الكثيرة لدى المختصين بدراسة علم النبات في الجمع بين الفائدتين، فإن حكمة الطبيعة دائماً تتغلب على المحاولات البشرية التي تنمّ في بعض جوانبها عن جشع غير مستحبّ لدى الطبيعة الحكيمة. وقد قامت الطبيعة بمعاقبة البشر على جشعهم فحرمتهم الكثير من عطاءاتها، وحين أرغموها على العطاء قامت بإنقاص القيمة مقابل الإكثار الكمّي، وبمراجعة بسيطة ندرك الفرق بين فواكه أيامنا هذه وفواكه أيام زمان، حين كانت الطبيعة تهب الناس كل ما تستطيع برضا وبمحبة.

هي قراءة خاصة لجانب من جوانب الحياة هذه، وإذا كان مردّها إلى ذلك السرّ الكامن وراء غياب زهرة القمح، فإن لها أسباباً أخرى كثيرة، لكن غياب الزهر طغى ليمنح بغيابه مدلولات أخرى جديرة بالتأمّل والتساؤل، فأين تغيب زهرة القمح قبل أن تتحوّل إلى حبّة؟!

العدد 1105 - 01/5/2024