الحوار والدستور

لم أكن أعي طلب لجان الحوار الوطني الشامل، ملاحظات واقتراحات على الدستور، لأنني فهمت في بادئ الأمر أن الحوار مكرّس لحل الأزمة، وذلك يتطلب حضور جميع الأطراف: موالاة، ومعارضة، وما بينهما.. وبالتالي يتم التوافق على الأطر الأساسية للنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ثم تشكل حكومة تشرف على انتخابات برلمانية حرة، ثم يجري الإعداد لدستور جديد يُقر باستفتاء شعبي.

وبعد مقابلة السيد رئيس الجمهورية مع قناة (الإخبارية) السورية، فهمت الأمر بشكل أوضح، وأنه من المفيد تقديم الاقتراحات لتعديل الدستور. وذلك يتطلب المساهمة وإبداء الرأي في دستور البلاد.

ولا يمكننا أن ننكر أن الدستور الحالي متقدم على سابقه بكثير، إلا أنه خلط بين النظام الرئاسي وشبه الرئاسي، والنظام البرلماني، فكتب بروح نظام برلماني ونصوص نظام رئاسي. وأجزم أن المشكلة ليست في النصوص فقط، وإنما في التطبيق، فإذا أخذت أفضل دساتير العالم ولم تطبقها وتحترمها، فالنص وحده غير كاف.. وهذا الهاجس يحكمنا جميعاً من خلال السنوات السابقة، فكثير من نصوص الدستور السابق وروحه كان يجري التعدي عليها بأشكال مختلفة، سواء ببعض المراسيم أو بعض القوانين.

ولما كانت المادة الثامنة في الدستور السابق التي تجعل حزب البعث (القائد في الدولة والمجتمع)، ورئيس الجمهورية يترجم قرارات وتوجهات الحزب بمراسيم وتوجيهات وغيرها، ظهرت حساسية عالية من صلاحيات رئيس الجمهورية. فلو أخذنا صلاحيات رئيس الجمهورية الفرنسية في النظام شبه الرئاسي، لوجدناها واسعة في مجالَيْ السياسة الخارجية والدفاعية، وهو الذي يعين رئيس الوزراء وأهم مسؤولي الإدارة، وله حل مجلس النواب، ودعوة مجلس النواب لاجتماعات استثنائية، ويترأس مجلس القضاء الأعلى، ويتولى التفاوض بشأن المعاهدات الدولية، وله سلطات استثنائية في حالات الأزمات.

ومع ذلك لا نستطيع أن ننكر بأن النظام الفرنسي ديمقراطي وتعددي، وذلك لأسباب تعود للحياة والممارسة السياسية الشعبية ومنظمات المجتمع المدني واحترام القوانين.

أما عندنا وفي معظم بلدان العالم الثالث، فإن النصوص والقوانين تفصّل ونفسّر على مقاسات أحزاب وأشخاص معنيين. ومن أجل الخروج من هذه العقلية أو (الثقافة) في التجاوز، فلابد من تحديد ووضع ضوابط في النصوص للصلاحيات المختلفة.

وليس عيباً أن نحدد صلاحيات رئيس الجمهورية ووضع ضوابط لها. فمثلاً هو يرأس المجلس القضائي الأعلى، وهذا من حقه بوصفه حامياً للقانون، ولكن ليس مفيداً أن يتنازل عن بعض صلاحياته لوزير العدل.

كما أن المادة الحادية والأربعين بعد المئة نصت على أن (تؤلف المحكمة الدستورية العليا من سبعة أعضاء على الأقل، يكون أحدهم رئيساً، يسميهم رئيس الجمهورية بمرسوم). وإذا أخذنا التجربة الفرنسية نجد أن المحكمة الدستورية العليا يقابلها في النظام الفرنسي المجلس الدستوري وعدده ،9 يختار رئيس الجمهورية ،3 ورئيس مجلس الشعب3 ورئيس مجلس الشيوخ 3.

أما في إيران فيُنتخبون من مجموعة من الفقهاء والخبراء الدستوريين، ولا أعتقد أننا عاجزون عن اختيار شكل مناسب يتوافق في معالجة مثل هذه القضايا، خاصة أن السيد رئيس الجمهورية لا يكون بالضرورة قاضياً أو محامياً أو من حملة شهادة الحقوق.

ولست هنا بصدد الاقتراحات لمناقشة كل مواد الدستور، مادة مادة، وإنما كأفكار عامة. وإذا ما أخذنا الفقرة الأولى من المادة الثامنة (يقوم النظام السياسي للدولة على مبدأ التعددية السياسية، وتتم ممارسته ديمقراطياً عبر الاقتراع)، نجدها لا تتماشى وصلاحيات رئيس الجمهورية بتعيين رئيس مجلس الوزراء والوزراء ونوابهم والمديرين العامين، دون ذكر لنتائج الانتخابات وحجم الكتل النيابية. كما أن مبدأ فصل السلطات جرى التجاسر عليه كثيراً، لجهة حل مجلس الشعب دون ذكر الأسباب، وسنّ المراسيم وإصدارها بمساحات واسعة، وعدم استطاعة مجلس الشعب رد القانون الذي يصدره الرئيس إلا بأكثرية ثلثي الأعضاء المسجلين في الجلسة، على ألا يقلّوا عن ثلثي أعضاء المجلس كافة.

كما أننا نجد عدم التوازن في تفصيل السلطات، فالدستور أسهب بالتفاصيل عن السلطة التنفيذية والتشريعية، واختصر كثيراً في السلطة القضائية، وترك تنظيم العديد من الأمور القضائية وتعيين القضاة وغيرها لكي تنظم بقانون، وبالتالي يعود أمرها للسلطة التشريعية، مما يخل بمبدأ فصل السلطات والتوازن فيما بينها.

ومن المبادئ الهامة أن السلطة القضائية يجب أن تكون مستقلة وحيادية وبعيدة عن التجاذبات السياسية. وإذا أخذنا قانون السلطة القضائية المعمول به حالياً، نجد فيه نصاً يحظر على القاضي الانتماء إلى أي حزب سياسي! بينما نجد أن جلّ المسابقات القضائية تأخذ بالانتماء الحزبي شرطاً لاختيار القاضي! ومن المفيد أنه لا يوجد نص في القوانين أو الدستور لا يعمل به.

وأعتقد أنه من المفيد اختيار النظام أولاً، رئاسي أم برلماني، ثم يصاغ الدستور على أساس النظام الذي يُختار، وإلا فستختلط المواد وتظهر أنها متناقضة من مكان إلى آخر. وعلى الرغم من أن الدساتير هي مبادئ عامة، ولا يجوز فيها التفصيل، إلا أنني أجد أنه لابد من التفصيل في بلادنا ووضع الضوابط المحددة والصريحة، ولابد من قدسية الدستور واحترام القوانين.

العدد 1105 - 01/5/2024