إشكالية العلاقة بين المجتمعين المدني والسياسي

لا يمكننا دراسة المجتمع المدني بمعزل عن الدولة من حيث هي مجموعة قوانين ناظمة للمجتمع والممثلة بالدستور، وتحديداً في مجتمعاتنا العربية. فقد شهدت الدولة عبر سنوات من سيطرة الاستبداد السياسي، تضخماً كبيراً لأجهزة السلطة الأمنية ولجهازها الإداري البيروقراطي المتضخم، على حساب انحسار وتغييب دور مؤسسات المجتمع المدني في كل مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، كمشارك أساسي وفاعل في دراسة هذه السياسات وصياغتها، وكرقيب على تنفيذها بما يخدم المصلحة العامة بعيداً عن المحسوبيات والفساد والارتهان لمصالح الطبقات المهيمنة على السلطة.

والتشاركية هنا لا تعني إلغاء دور الدولة الرقابي والإشرافي والتخطيطي ،لصالح النهج الليبرالي الاقتصادي المتوحش بهدف تقوية السوق وإطلاق آليات عملة المنفلتة من كل رقابة، بحيث تفرض المكنة الليبرالية الاقتصادية ليبراليتها السياسية التي ستلغي حكماً كل الآفاق الديمقراطية في المجتمع، متجاهلة قيم العدالة والمساواة بين جميع أفراد الشعب.

(إن التنكر للدولة باسم المجتمع المدني قد يصب في مصلحة الأنشطة الدولية المصاحبة للتحول إلى اقتصاد السوق عالمياً، وما ينتج عن ذلك من انسحاب تدريجي للدولة من دورها الرعائي والخدماتي لمصلحة الشركات المتعددة الجنسيات)، والذي يعني حكماً فصل القضية الاجتماعية عن القضية الوطنية لصالح هذه الشركات.

إضافة إلى ذلك من الخطأ النظر إلى الدولة بمنطق التماهي أو التماثل مع الحكومة، أو بقية مؤسسات الدولة الأخرى، لأن الدولة في النهاية وتحديداً في مجتمعاتنا العربية ذات الانتماءات ما قبل المدنية، من طائفية وإثنية وقبلية، يبقى منوطاً على عاتقها مهمة بناء الهوية المجتمعية القوية بوصفها مرجعاً وخياراً للعمل المجتمعي المؤسسي، إلى جانب حماية الفرد من سلطة الدولة القمعية والشمولية والاستبدادية.

إن تجذير العلاقة بين المجتمعات المدنية المحلية والسلطات وإعادة تقييم وتجديد هذه العلاقة بشكل دائم ومستمر، من شأنه أن يساهم في ردم الهوة القائمة بينهما، بحيث يستطيع تجاوز أزمة الثقة بينهما. ولتجذير مثل هذه العلاقة وتقويتها لا بد من الاعتراف بحق هذه المجتمعات وهذه المرجعيات بالوجود، وذلك بإطلاق حرية تكوين الأحزاب والنقابات والجمعيات والمنتديات الأهلية ذات الطابع الاجتماعي البعيد عن التعصب والطائفية، والأهم من كل ذلك هو تحرير وسائل الإعلام من كل أشكال الاحتكار، وشرعنة الديمقراطية والحرية، وبقاء الباب دوماً مفتوحاً للحوارات بين جميع مكونات المجتمع من جهة والدولة من جهة أخرى إسهاماً في صياغة سياسات البلد السياسية والاقتصادية والوطنية، لأن الأنظمة التي ترفض تقاسم السلطة ستبقى رهينة سياسات القمع الدائم الممارس على كل المنظمات غير الحكومية التي تتحرك خارج عمل المؤسسات الحكومية.

لقد اخترق تعبير المجتمع المدني اليوم الشعارات والبرامج السياسية والاجتماعية والاقتصادية لأغلب الدول المتقدمة، وبدرجات أقل في المجتمعات النامية. فقد شق طريقه العملياتي كوسيلة أساسية في مواجهة الهيمنة المطلقة للسلطة، معبراً عن الدور الحر للفرد المتعاظم في المجتمع، مؤكداً يوماً بعد يوم أنه أكثر وعياً من السلطة التي تحكمه، عاكساً بشكل أو بآخر حاجات الفرد ومتطلباته بصورة أكثر واقعية وأكثر مصداقية، استطاع أن يعكس الآمال الحقيقية لكل شرائح المجتمع (نساء وشباباً وأطفالاً..) في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية، وفي ميادين متصلة بالفساد والبطالة والتضخم وأخرى متعلقة بحقوق الإنسان والحريات السياسية والإعلامية، وفي مجال البيئة والتلوث والتنمية المستدامة. لكن أهم المعوقات كانت وما زالت على مدى قدرة هذا المجتمع على التدخل، وذلك ارتبط بطبيعة السلطة الحاكمة ومدى سماحها بحرية ممارسة هذا التدخل. وقد لا يخفى على أحد أن مصطلح (المجتمع المدني) بآلياته المعروفة وبتكريسه كمفهوم عملياتي في المجتمعات العربية، قد ارتبط بظاهرة (العولمة) التي أدت إلى إدخال تغيرات على خريطة المجتمع المدني في أغلب الدول العربية، فهذه الخريطة حتى بداية السبعينيات من القرن العشرين كانت على شكل منظمات شعبية تعبر عن فئات اجتماعية معينة كالنقابات العمالية والمهنية والاتحادات الطلابية وكمنظمات نسائية وشبابية، أو جمعيات تعاونية أو على شكل منظمات غير حكومية أو جمعيات أهلية خيرية أو ثقافية واجتماعية، أو على شكل أندية رياضية وثقافية واجتماعية تقدم مساعدات لفئة تشبع حاجات المنتسبين إليها في مجالات معينة.

وعلى الرغم من أن مؤسسات المجتمع المدني في الغرب استطاعت أن تنتزع موقعاً متقدماً كقوة غير حكومية فاعلة، قوة ضغط على الحكومات لاتخاذ القرارات وفي الكثير من ميادين الحياة، لدرجة أصبحت الحكومات لا تتخذ أي قرار إلا بالعودة إلى هذه المؤسسات، وبالتشاور معها، غير أنها في البلدان العربية ما زالت تطمح للاعتراف بها بداية ككيانات مستقلة غير حكومية، طامحة أن تصل إلى تلك المكانة التي تستطيع بها أن تسهم في مشاركة الحكومات في صياغة القرارات الاقتصادية والسياسية والثقافية.

بالمحصلة فإنه في دولة يحكمها القانون والمؤسسات المنتخبة ويشرعنها الدستور ومبدأ فصل السلطات، لا توجد أي علاقة تناقضية بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدني المستقلة، بل على العكس إنها علاقة تكاملية لا يلغي فيها طرف الطرف الآخر، علاقة تعاون ومساهمة ومراقبة في إغناء دور الدولة التنموي والرقابي، إنه أشبه بعقد اجتماعي مبني على إرادة جماعية عليا، على جميع أفراد المجتمع احترامها وقبولها والانصياع لها، عقد يضمن الحقوق المدنية والواجبات لجميع أفراد المجتمع بلا استثناء.

 

 

بعض المراجع:

1- الدكتور عبدالله تركماني باحث وكاتب سوري.

2- الحبيب الجنحاني: كاتب تونسي.

العدد 1105 - 01/5/2024