العنف الأسري في البيئات المهمّشة أشد خطراً

الطفولة هي كنز المجتمعات الإنسانية ومستقبلها الذي يُفترض به أن يكون مشرقاً إذا ما لقيت هذه الطفولة حقها الطبيعي من الاهتمام والرعاية والتنشئة السوية والصحية.

وأطفال اليوم، هم نساء ورجال الغد الآتي، الذين تقع على عاتقهم مسؤولية النهوض بالمجتمع والارتقاء به ليحوز  مكانةً تليق به بين الأمم المتحضرة.

فهل يكفي أن نقرر، أو نرغب في أن نكون آباء وأمهات لنكون آباء صالحين، وقدوة لأطفال لا يمكنهم إلا أن يتخذونا مثلاً أعلى بكل ما نحمله في نسغ شخصيتنا وتفكيرنا.

قبل أي شيء، على الأبوين أن يكونا أهلاً لتحمل مسؤولية أبوّتهم، بكل ما تحمله هذه التسمية من أبعاد نفسية- إنسانية وروحية، وأن يبتعدا عن المقولة الشائعة والخاطئة: (إن الولد يأتي، ويأتي رزقه معه!)، فيقبلون على الإنجاب وكأنهم في حلبة سباق، متجاهلين مدى خطورة ذلك على كامل الأسرة، بدءاً من الأم إلى أصغر فرد فيها، بسبب ضيق ذات اليد، ضيق المسكن، ضيق الوقت اللازم للاهتمام الكامل بهذا العدد الكبير من الأولاد مادياً وتعليمياً وصحياً. وهنا يأخذ الشارع نصيبه في التربية، بدءاً من اللعب وانتهاءً بالمسلكيات غير الصحية وغير السوية المكتسبة من أخلاقيات الشارع.

للأسف، إن هذا النموذج من الأهل موجود فعلاً وبكثرة في المناطق النائية والمهمّشة والسكن العشوائي، وهو ما أراه بأم عيني يومياً. فهنالك أسر في هذا الوقت يبلغ عدد الأولاد فيها تسعة أو عشرة أولاد لا يتجاوز عمر أكبرهم 18 عاماً، وأصغرهم مازال رضيعاً والأم حامل بطفل جديد.

وإذا ما ألقينا نظرة متفحّصة على وضع هذه الأسر المعاشي والمهني، نجد أن الأب إما يعمل بالفاعل (يومي) أو بالقطاع الخاص أو العام ضمن فئات وظيفية متدنية، لا يتجاوز راتبه العشرة آلاف ليرة مع كل التعويضات المستحقة، والأم على الغالب ربّة منزل، أو في أحسن الأحوال تعمل في خدمة البيوت أو ما شابه، تقوم تربيتها لأولادها على أسس تقليدية عفا عليها الزمن، تربية أساسها العنف الجسدي واللفظي والمعنوي- النفسي، فالضرب والشتائم والنعوت التي لا تليق ببراءة الطفولة هي أولى أسس التعامل مع أولئك الأطفال في أحسن الأحوال، يليه الطرد- خاصة للذكور- من المنزل إن لم يرضخوا لمزاجية الأم أو الأب اللذين لا يمكنهما على الغالب التلفّظ بكلمة ماما أو بابا لأبنائهما الذين نجد غالبيتهم ضمن هذا الواقع بمستويات دراسية متدنية. إضافة إلى التسرّب المتقطّع من المدرسة تحت حجج وذرائع غير منطقية لاسيما بالنسبة للإناث اللواتي يقع على عاتقهن في هذه البيئات، وفي ظلّ تلك الظروف الاقتصادية والاجتماعية المتدنية، مسؤولية أعمال البيت وتربية الإخوة الصغار. أحلام هي واحدة من أولئك الفتيات اللواتي حكمت عليهن ظروفهن وأسرتهن بالتسرب الجزئي، بحجة أن مستواهن متدن جداً ولا فائدة من تعليمهن. والأَولى لهن أن تتعلّمن إتقان أمور الأسرة، لأنها أولاً وأخيراً للبيت، إما عند الأهل أو عند الزوج.

أحلام طفلة لا تتجاوز الثالثة عشرة من عمرها، لكنها تقوم بمسؤوليات ترهق كاهل الكبار، تراها تقف أمام الغسالة اليدوية تعصر الثياب بيديها الصغيرتين، ومن ثم تقفز قفزات متتالية لتتمكن من الوصول إلى حبل الغسيل، أو تلجأ لأسطح الجيران كي تعلّق ما بقي من ثياب، ثم تلتفت لما يتطلبه مطبخ اليوم، والأم مشغولة بباقي الصغار ومتطلباتهم، أو مشغولة بزياراتها واستقبال جاراتها.

أحلام لا تذهب للمدرسة إلاّ في أيام لا تحتاجها الأم فيها- وهي أيام قليلة جداً- وعند سؤال الأم عن غيابها المتكرر عن المدرسة، تجيبك أنها لا تفهم ولا جدوى من تعليمها. ولمّا أخبرتها أن ابنتها ما زالت في مرحلة التعليم الإلزامي، ومن الضروري الاهتمام بدراستها حتى تحصل على شهادة التعليم الأساسي على أقل تقدير ، وأن الأب سيتعرض لمساءلة قانونية في حال تركت المدرسة،  أجابت بأنها اتفقت مع مدير المدرسة بأن لا تنقطع بشكل دائم، ولأن وضعها الدراسي سيّئ فسوف تتجاوز المدة المسموح بها للبقاء داخل المدرسة، وبالتالي يكون خروجها منها بشكل نظامي وقانوني، وهذا ما يُبعد الأب ومدير المدرسة عن المساءلة القانونية..!؟

بالطبع هذه ليست قصة أحلام وحدها في هذه المناطق والبيئات، فهناك في كل بيت أحلام أو أكثر.

أمام هذا الواقع المرير للطفولة في تلك المناطق، هل يمكن النظر إلى المخاطر التي تحيق بالطفولة بأنها محصورة فقط في مسألة التسوّل والتشرد والدعارة والاتجار بالأطفال..؟ أليس هذا النمط من التربية الأسرية عنفاً أكثر خطورة وضراوة مما تنطوي عليه الأخطار الأخرى؟

وهل المجدي الاكتفاء بأفلام إعلانية، وورشات عمل أو برامج لا يتجاوز تأثيرها محيط استديو التلفزيون أو الإذاعة عن أهمية تنظيم الأسرة وتقليل عدد أفرادها، أو عن أهمية التعليم وتقليص نسب التسرب والقضاء على الأمية..؟

هل يكفي أن تحدد وزارة التربية إلزامية التعليم لغاية إنهاء مرحلة التعليم الأساسي، دون متابعة جدية وحقيقية لأمثال مدير هذه المدرسة الذي يساهم مساهمة مباشرة في تسرب الأطفال من التعليم، ويخرق القانون بطرق قانونية تبعده عن المسؤولية..؟ وهل يكفي أن نفاخر فقط بعدد رياض الأطفال والمدارس والجامعات لدينا دون دراسة ومتابعة حثيثة وجدية لما يتطلبه الواقع البائس في هذه البيئات؟

لقد أكدت الوثيقة العربية من أجل الطفولة أهمية مواصلة مسيرة رعاية الطفولة وتنميتها بتعميم الخدمات الموجهة إليها قصد شمولها جميع الفئات، وأن يكون التركيز في المرحلة القادمة على الارتقاء بنوعية حياة الأطفال.

  جاء في الفقرة الرابعة من هذه الوثيقة في المجال الاجتماعي ما يلي:

 البند(د) : حماية الأطفال من الآثار الاجتماعية الضارة، مثل المخدرات وأفلام العنف والإعلانات المضللة، وتحريم استغلال الأطفال وتسخيرهم والإساءة إليهم.

البند(ه) : العمل على إيصال الخدمات المجتمعية بمختلف صورها إلى الفئات الفقيرة والمحرومة في المناطق النائية في البادية والريف وأحزمة الفقر حول المدن. 

هل… وهل… وهل، قد لا تكفي لسيل التساؤلات التي يفرضها واقع هذه البيئات البعيدة عن أعين الجميع.

العدد 1105 - 01/5/2024