الأَطفال وغريزة حب التملّك

تُعدُّ غريزةُ حبِّ التّملُّك عند الأَطفال، إِحدى مُشكلاتِ الطُّفولة الأَساسيَّة والهامّة. ولِذا، فإِنّها تقتضي من الأَهلِ والأُمِّ تحديداً، مواقفَ تربويّةٍ وتوجيهيّةٍ مدروسة. كما تقتضي الحذرَ في التّعاملِ مع الطِّفل وعدم إِهمال هذا الجانبِ النَّفسيِّ والاجتماعيِّ في حياته ومحاولةِ القفزِ من فوقه.

إنّ لِهذه الغريزةِ المُتأَصِّلة في نفس الطّفلِ، مظاهرَ مُتعدِّدة لا يلحظُها إلاّ الأُمُ الواعيةُ اليقِظةُ. فمنَ الواضِح تماماً. إنّ كثيرين من الأَطفال، يرفضونَ مشاركةَ غيرِهم في أَلعابهم ومُقْتنياتهمُ الخاصَّة، فيحتفظون بها بعيداً عن أَيدي الأَصدقاءِ، ويحيطونَها بهالةٍ من الأَنانيّةِ المُفرطة. قد تُحاولُ الأُمُّ أَن تُنمِّي لدى طفلِها القدرةَ والرّغبةَ في المُشاركة، إلاّ أَنّ بعضَهم يرفضُ الانصياع والقبولَ، بل تنتابُه أَحياناً حالةٌ من الفزعِ والتَّوتُّرِ، إذا أَمسكَ أَحدُ الأَصدقاءِ بلعبتَه أو بشيء ما يخصُّهُ. عندئِذٍ يكرهُ الأَطفالُ الآخرون اللّعِبَ معهُ، ويسعَون لِعزلِه وإِبعادِه، فينطوي على نفسهِ خوفاً على مُمتلكاتِه وأِشيائِه حتّى البسيطة منها، وهذا يقودُ الأُمَّ أَحياناً إلى الخشيةِ من أَن تُسيطرَ على طفلِها مُستقبلاً سِماتُ البخل والأَنانيّةِ والانعزاليّةِ ورُبَّما التَّوحُّد… فماذا على الأُمِّ أَن تفعل؟

على الأُمّ ألاّ تقعَ في مطبِّ الخوفِ والاستسْلامِ. عليْها أَن تُدركَ أَنّ طفلَها ما يزالُ صغيراً، ويُمكنُها بكثيرٍ من الأَناةِ والعمقِ المعرفيِّ والتَّربويِّ أَن توجِّههُ. لقدْ أَثبتَتْ الدِّراساتُ الّتي أَجرتْها جامعةُ زيوريخ، أَنّ كلَّ الأَطفالِ ما بين الرّابعة والسّابعة من العمر يعانون مُشكلاتِ التَّأَقلُم مع الآخرين بشكلٍ أَو بآخَر. ولا يبدأُ الأَطفالُ بالاهتِمامِ والتّعاونِ مع غيرِهم إِلاّ بعدَ فترةٍ تطولُ أَو تقْصُرُ مِن دخولِهمُ المدرسةَ، وانغماسِهم في جوِّ الزُّملاءِ والحياة الجماعيّة.

عندما يكونُ الطِّفلُ صغيراً، لا يثقُ بغيرِهِ منَ النّاسِ أَبداً. بلْ يرى أَنّ كلَّ ما يملكُه هو جزْءٌ مِن عالَمهِ الخاصِّ الّذي يخشى افتقادَهُ. لِذا يلجأُ إلى تأْكيدِ مُلْكيَّتهِ لِلأَشياءِ الّتي يُحبُّها، ويُبْعِدُها حتّى عنِ الأَشخاصِ الّذين يدورُ في فلَكِهم ويعيشُ معهم. من هنا نستطيعُ تفسيرَ استخدامِه ياءَ المتكلِّم. إذْ دائِماً يقولُ كُرتي- بيتي- حتّى في السلع المشتركةِ مع غيرِه. ولا يروقُ لهُ استخدام ضمائِرِ الجمعِ، وذلكَ رفضاً للمشاركةِ مع الآخرين.

إنّ الرَّغبةَ في المُشاركةِ لا تستهوي الأَطفالَ وهمْ في سنِّ الصِّغر. لِذلكَ كثيراً ما يحصلُ النِّزاعُ بين الطِّفل وأَصدقائِه، تعبيراً عن عدمِ رغبتِه في مشاركتِهم له عالَمَهُ وأَشياءَه. ورُبَّما لا يُبدي الطّفلُ رغبته في مشاركَةَ الآخرين لهُ، إلاّ عندما يجدُ أَنَّ مشاركتَه فيما يمتلكُهُ غيرُهُ، تُعادلُ أَو تزيدُ عن مشاركتِهِمْ لهُ فيما يملكُ هو. وهنا تلعبُ المصالِحُ والأَنانيَّةُ دورَها في تبادُل المنافعِ عند الأَطفال. وتزدادُ هذه الظّاهرةُ سوءاً، عندما يكونُ الطِّفلُ وحيداً لِوالِديْهِ، ويشْعُرُ أَنّ السّاحةَ العائِليَّةَ مخصَّصةٌ لَهُ وحْدَهُ.

أَمامَ هذه الظَّواهرِ الخطِرةِ في حياة الطّفلِ. يبرزُ دورُ الأُسْرةِ في تعديلِ سُلوكِ الأَبناءِ. وأَخصُّ بالذّكرِ هنا دورُ الأُمِّ. فالأُمُّ هي العُنصُرُ الفعَّالُ والأَهمُّ في تقويمِ أَخطاءِ الطِّفلِ والأَخذِ بيده نحوَ مسارِبِ الحياة الطِّفليَّة الهادِئَة. إنّ مهمّاتِ الأُمّ ومسؤوليّاتِها إزاءَ هذه الإِشكاليّة، لا تُحدُّ ولا تُحْصَرُ بسلوكٍ واحدٍ أَو موقفٍ مُحدّدٍ واضِحٍ. بلْ هناكَ أَساليبُ قد تتعدَّى الحصْرَ. لعلَّ أَهمَّها :

*… على الأُمّ أَن تُنبِّه طفلَها، إِلى أَنَّ فكرةَ تبادلِ المُقتنياتِ لا تعني أَبداً فقدانَها، بلْ تبقى في حُدودِ الإِعارةِ والاسْتِردادِ وستعودُ ملكيتها لِصاحبِها. تستطيعُ الأُمّ أَن تُطبِّق مثالاً عمليّاً يشاهدُهُ طفلُها، بأَنْ تُعيرَ صديقتَها أَو جارتَها شيئاً ما، ويرقبُ الطِّفلُ عمليَّةَ استردادِ الشّيء المُعار. يجبُ أَنْ يلمسَ الطّفلُ بنفسِه عمليَّةَ الإِعارة والاستردادِ، لِتزدادَ قناعتُهُ بِأَنّ المشاركةَ لا تعني خسارةَ الشيء وفقدانِهِ.

*… على الأُمِّ ألاّ تُبرِزَ عيوبَ طفلِها أَو تلومَه على تصرُّفِه أَمامَ الآخرين، حتّى لو كانوا إِخوتَه أَو أَفرادِ أُسرتِه. بل يجبُ عليها أَلاّ تقفِ من هذه الإِشكاليّة موقفَ المُسْتهجنِ أو الخائِف. بل عليها أن تعدّ مثلَ هذا السُّلوك الطّفليِّ أَمراً طبيعيّاً لِمن هم في مثل سنِّه، ولا يدلُّ مطلَقاً على بخلِهِ وأَنانيَّتهِ المستقبليّة.

*… على الأُمّ ألاّ تُبالغَ في لفتِ انتباهِ طفلِها وتأْنيبه على مُمارسَة هذه الفرْديَّة والتَّمسُّك بأَشيائِه، حتّى لا يزداد تَعلُّقاً بها، ويُفضَّلُ أَنْ تُشْعِرَ الأُمّ طفلَها بأَنّها تُقدِّرُ لَهُ حقَّهُ في خوفِهِ على مُقتنياتِهِ، ولكن مع تعليمِه أَنّ إِسعادَ الآخرين لا يقلُّ أَهمّيّةً عن إسعادِ الذَّات.

*… على الأُمّ أَلاّ تُجْبِرَ طفلَها على إعارةِ أَشيائِه الخاصّة للآخرين أَو مشاركتِهم فيها، لأنه سيُقابلُ ذلك بالعنفِ والتَّمرُّد والإصْرارِ على التَّمسُّك، انتهاء إلى الصُّراخ والبكاءِ. وهذه أَسوأُ نتيجةٍ تحصُدُها الأُمّ من إِصرارِها. ولِذا يَحسُنُ بالأُمّ أَن تغرس في نفس طفلِها أَنّ المشاركةَ أَساسُ العلاقاتِ الإنسانيّة والودِّيّة، وقد يتحقَّقُ ذلك، بدعوةِ أَصدقائِه إلى بيتِه هو لِيشْعرَ بالأَمان أَكثرَ، وهم يلعبون معه ويشاركونه أَلعابَه.

*… أخيراً وليس آخِراً. على الأُمّ أَن تَفهَمَ أَنّ رفضَ طفلِها مشاركةَ غيرِه لا تعني دوماً أَنّه أَنانيٌّ وبخيلٌ أَو مُتوحِّدٌ ومُنحرف. لا أَبداً. لأن ذلك قد يعني اعتزازَه بِمُقتنياتِه وأَشْيائِه الخاصّة، وقدرته على تحمُّلِ المسؤوليّة في هذا الاعتزاز، في حدود ما يسمحُ به فكرُه المتواضع الصّغيرُ المُتأَهِّبُ للنُّموِّ والتَّطوُّر.

العدد 1105 - 01/5/2024