الاصطفاف والمصادرة

حسن إبراهيم أحمد

 

 

 أطلعني صديق على مقالة لكاتب اسمه: ياسين السويحة، ولأننا ككتاب عرب نشعر بوهن المصداقية والموقف أو الرأي، فنلجأ لدعم آرائنا بما يقوله الأجانب، يعتمد الكاتب على رأي لجورج أورويل أوصله إلى اعتبار المثقف الذي يقف ضد العنف بشكل عام أياً كان مصدره في سورية، هو في حالة انحياز للنظام باعتبار أن موقف مثل هذا المثقف يصب في خدمته وتبرير عنفه، دون أن يقدم التحليل المقنع لكيفية ذلك، أي ليس هناك إجابة على السؤال كيف يكون رفض العنف كله تأييداً لبعضه، أي لعنف دون آخر؟

أنا معني بالرأي لا بالكاتب الذي له حق إبداء الرأي. والأسئلة التي تخطر بالبال مثلاً: هل يكون الموقف الأفضل والأسلم والأكثر أخلاقية وخيرية وتماسكاً، والأفضل تبريراً سياسياً واجتماعياً، هو أن يكون المرء غير رافض للعنف- إن لم يكن مشجعاً له- كموقف لا يجلب اللوم لأنه في مصلحة طرف دون آخر؟ وما موقف الكاتب ورأيه بمواقف المثقفين الذين يدعمون ويشجعون عنف المعارضة، ويرفضون عنف النظام، ومثل هؤلاء كثر، هل يلوم هؤلاء أم يرى أن هناك عنفاً مرفوضاً وعنفاً مقبولاً، عنفاً شريراً وعنفاً خيّراً، عنفاً محترماً وإنسانياً وعنفاً مرذولاً وقبيحاً؟

أية شخصية كاريكاتورية يطلب السويحة أن يكونها المثقف العقلاني المعتدّ بالفكر الحر والوطنية؟ ألا يكون المثقف المحرض والمنحاز لجهة ما مشجعاً لها على العنف ومبرراً لما ترتكبه، متناقضاً مع مبادئ العقلانية والوطنية التي تتطلب الابتعاد عن الشروخ التي تصنعها الاصطفافات ومصادرة الرأي؟

الكاتب الذي لا يصرح بموقعه يستبطن موقفاً، ومن الطبيعي ألا يدين موقفه. فهو عندما يصرح بإدانته للمثقف الذي يعلن إدانته للعنف بشكل عام، لأن ذلك يصب في صالح العنف الذي يمارسه النظام، كأنه يقول أنا لا أدين العنف بشكل عام، أو لا أدينه لأن إدانته تخدم النظام. ولما كانت شخصية المثقف لا يليق بها أن تكون مؤيدة للعنف، فكأنه يقول أنا مع عنف يصدر من جهة ما، وضده عندما يصدر من جهة أخرى. وعند الذهاب بالتحليل أبعد، كأنه يقول أنا مع العنف الذي تمارسه المعارضة وضد العنف الذي يمارسه النظام، بدليل عدم إدانتي للعنف بشكل عام لأنه يخدم النظام.

 أراد إصلاح اعوجاج التفكير، فأصبح التفكير أكثر اعوجاجاً. هكذا تبدو حالة الموقف الكاريكاتوري غير المتوازن وغير الثقافي لأنه غير عقلاني. قد يكون موقفاً سياسياً، وهذا حق لصاحبه لا ينكر عليه، لكنه ليس موقف مثقف يعتد بعقلانيته، لأنه ينطوي على تناقض وتحيز وعلى تمييز بين فئة وطنية وفئة وطنية أخرى في حالة حسن الظن، وإذا كان ذلك خياراً لسياسي فليس خياراً لمثقف، ويكون قد لبس التهمة بدل إلباسها للآخرين، لأن خيار المثقف المحسوم هو رفض العنف، أي عنف. قبل أن نخلق وإلى اليوم، العنف موجه ضدنا من أعداء بلادنا، تلك القوى التي لم تترك فرصة لاستغلالنا واستتباعنا إلا وحاولت استغلالها، وقد صفق لها بعضنا واحتفى واحتفل عند الاقتراب من ضرب قوى الغرب لسورية، مع أن المثقف وغيره يعرف أن العدوان لن يكون على فريق دون فريق في سورية، بل ضد الجميع وهو عنف من مستوى رفيع تقوم به قوى تملك أدواته الجبارة. وهنا ستحضر دور هذا الجنس من المثقفين والسياسيين الذين حرضوا أمريكا على غزو العراق، والذي حللته في كتاب ((الليبراليون العرب واستحقاق الحرية)) والموقف متشابه، فما أشبه اليوم بالبارحة، وهؤلاء مثقفون وسياسيون متشابهون، شبه القذة بالقذة. الشيء المثير لقرف العقلاء هو أن نجد من يحتفي ويحتفل بالضربة ويشجعها، وهو يعلم ما ستفعله، لأن الأمثلة في العراق وليبيا أعطته نموذجاً، ثم لا يتردد في إعلان الموقف متحدثاً باسم الثقافة والمثقفين أو الوطن والوطنيين، وهو خارج الثقافة والوطنية والعقلانية. ولم يقل لنا السويحة إن كان رفضنا لهذه العنف يزعجه!

تقوم حجة مناهضة العنف الذي تقوم به السلطة، وتبرير عنف المعارضة على الوسائط التي تمتلكها السلطة، وهذا تقدير استراتيجي تعبوي عسكري وغير فكري. وسلاح السلطة سلاح بلد في حالة حرب، ومعروف مدى الحاجة لكل الأسلحة، لكنها عندما واجهت الاحتجاجات عليها وجدت هذا السلاح بين يديها، خفيفه وثقيله، ومع أن الحراك لم يكن سلمياً بشكل تام حتى في أيامه الأولى، وبدلالات كثيرة، لن نذكرها كي لا تضاف إلى دعاوى الانحياز المزعومة، فإن المعارضة لم تفكر في أنها لم تكن خسارتها وخسارة الوطن لتبلغ عشر ما بلغته إلى الآن لو أنها رفضت التسلح بتاتاً، ولوجدت عند ازدياد القتل بيد النظام أن القوى العسكرية والأمنية والمدنية قد انحازت لها تاركة النظام، لكن سوء تقديرها وارتباطاتها التي لم تعد خافية، وتوجهها إلى أن العنف لا يواجهه إلا عنف أشد، والسلاح لا يواجهه إلا سلاح أقوى سواء كان بيد المعارضة أو حلفائها أو أمريكا المتربصة كما توقعوا، وصدق توقعهم بدلالات الماضي وما كاد يحدث لولا ولولا، وهو مادفع إلى سوء التقدير والتصرف. وبما أن المعارضة تشكلت لديها القناعة باللجوء إلى العنف ومارسته، فبماذا تتمايز عن السلطة في هذا المجال، حتى وإن كان سلاحها يقل كماً أو كيفاً عن سلاح السلطة؟ لقد أضنتها مطالبة العالم بأسلحة توازي ما بيد السلطة، ما يشير إلى عقلية عنفية عسكرية تدميرية لا إلى عقلية سياسية ثورية تبني الأوطان لا تهدمها، وتغير وتبني ديمقراطياً، ما يجعل البلاد تدخل عصر الشعوب المتقدمة، بدل أن تلحق بها وصمة العار والهمجية. المعارضة التي رغبنا دائماً في وجودها ودورها، سلكت الطريق الخطأ عندما لجأت إلى العنف، حتى لو كان رداً على عنف يوجه إليها. فالثورة التي ادعتها المعارضة تقوم عادة ضد وضع شديد السوء فقد أخلاقياته السياسية ومبرر استمراره، ولكي تكون بديلاً أفضل عليها التخلص من إرادة العنف والشر، وأن تتمتع بأخلاقيات تفوق جداً تلك التي تثور ضدها، وإلا فقدت أهم عنصر في الثورة ومبرراتها، وهي متى فكرت بأن النظام القادر على إدارة العنف والإمساك بزمامه، لما لديه من سلاح وأجهزة، تجب مواجهته بأدواته ومنطقه، فقد أصبحت هي وهو من طينة واحدة، وإذا كانت قد اقتنعت أن النظام فقد أخلاقية استمراره ووجوده كما تزعم، فقد وقعت هي في المطب ذاته أو الإشكالية ذاتها، وأصبحت من طينته تفكيراً وسلوكاً. ومن جاء حاملاً لواء تغيير وضع سيئ ولا أخلاقي عليه أن يضبط سلوكه وأفكاره على إيقاعات أخرى أكثر أخلاقية، لكن الامتحان لم يجعل المعارضة تجتاز الامتحان بنجاح، إذ برهنت عن أداء سياسي وفكري وأخلاقي متدنٍّ.

المسألة هنا لا تقاس بالوسائط القتالية كماً وكيفاً، بل بالإرادة والتوجه والارتباطات والموقف. فلما لم تستطع المعارضة موازاة النظام في امتلاك وسائط العنف، صبت جام غضبها على العالم الذي لم يقدم لها ما تريد، ومن كان ينتظر من الآخرين أن ينجزوا له أعماله، خاب مسعاه وبدا عواره واستتباعه وتهالكه.

وربما كان المجتمع الدولي لا ينطلق من الرحمة بسورية وأهلها ومعارضتها، وقد يرغب بدمار أوسع كما أكدت الأحداث، لكن ثقته بهذه المعارضة الهزيلة وتهتكها هو الذي جعله يحجم، ما يجعلها تتحمل مسؤولية ما وصلت إليه.

المعارضة بدت أضعف من النظام لأنها فقدت بوصلة الثورة الحقيقية المنتظرة، لا لأنها أقل إرادة في استخدام العنف، وكل المؤشرات دلت على أنه لو أن لديها أية وسيلة عنفية مهما كانت قوتها التدميرية لما ترددت في استخدامها ولم تحسب حساب الأخلاق، ما يجعل التحليل هنا لا يذهب، ولا يجوز أن يذهب باتجاه أن من يمتلك وسائل العنف الأقوى هو الأكثر عدوانية وشراً، فإرادة استخدام العنف موجودة لدى الطرف الآخر أيضاً، لكن الوسائط خانته، ومن كان كذلك، فقد مصداقية التوجه الوطني، فإذا كانت المعارضة مستعدة لإبداء كل هذا العنف واللجوء إلى الأعداء والاحتماء بهم وطلب مساعدتهم في تدمير السلطة، فماذا سيكون موقفها ممن يعارضها أو ينافسها على السلطة مستقبلاً لو نجحت في الوصول إلى الحكم؟ ألن يكون عنفها في مواجهتهم وليد عنفها في الوصول إلى السلطة ويعيد إنتاج المشكلة مضحياً بالديمقراطية؟

المشكلة إذاً في الخيار المتبع لا في الوسائط اللاحقة، فخيار العنف والوصول به إلى الأقصى كان خيار المعارضة مثلما كان خيار السلطة، ولو لم يكن خيار المعارضة لاجتازت امتحانها ونجحت اجتماعياً وأخلاقياً وسياسياً. خاصة أن بعض الوسائط والأساليب التي اتبعت في كسر شوكة السلطة، مثل تدمير المنشآت وأذية الناس وضرب خطوط الطاقة أو خطوط الوقود التي تغذي محطات التوليد للطاقة الكهربائية، قد سبب الأذى للمواطنين لا للسلطة.

 القراءة العقلانية لإدانة العنف هي تناسبها طرداً مع قوته وإرادته لا عكساً كما قرأها السويحة. وخطاب المثقف الرافض للعنف جميعاً، هو انحياز للوطن كله، والمطلب الآخر انحياز لبعضه، ما يؤدي لأبلسة المثقف غير المنصاع لرغبات سادية، وحشره في موقع المذنب الشريك في القتل، وإعفاء المنحازين للمعارضة من ذلك، وما أرجوه ألا يخرج علينا مثقف معارض آخر يتهم المثقفين الرافضين للعنف بأنهم قتلة، لإعفاء نفسه.

لقد أدنت العنف سابقاً وسأدينه لاحقاً، وكتبت فيه كتباً، مثل (العنف من الطبيعة إلى الثقافة)) و(المرأة في دوائر العنف))، ولن أخرج من جلدي وعن قناعاتي لإرضاء من يحرضون على مزيد من الدماء والدمار، ولن أميز في ذلك، والعنف الحاصل اليوم أكثر إيلاماً وتدميراً لإنسانية الإنسان، سنحصد أثره ندماً، خاصة عندما يشعر عقلانيو المعارضة أن الطريق الذي سلكوه للتغيير قد ضيّع على البلاد فرصة الانتقال إلى وضع أفضل، وسنحمّلهم وزر هذه الخيبة ووزر الانخراط والاشتراك في تدمير البلاد.

العدد 1107 - 22/5/2024