أطفالنا… وصخرة سيزيف

يقع أطفالنا اليوم في متاهة السؤال والبحث الدائم عن جواب…كيف لا.. وهم يعانون أقسى الصور وأبشعها.. ناهيك بالتداعيات السلبية وآثارها النفسية على مستقبلهم.

فالموضوع إذن، لا يرتبط بالحالة الراهنة فقط، وإنما تمتد التبعات إلى مالا نهاية.

صور متوحشة تُرسم على الأرض بألوان قانية، وسواد لا يعرف مساحات الأمل..وقائع أسى تحطُّ رحالها على أرض الوطن….ووقائع صارخة تلامس جروحنا في مشاهد تتجذر رويداً رويداً لتقبع في ذاكرتَيْ المكان والمدى.

كُتب الكثير عن صوت الحرب،وبقيت الحرائق تصرخ و تطبع فينا حكايات الرماد..

إذن.. سياق المشاهد مستمر.. علا صوت الحرب فيها أم هدأ..فحضور آثارها في ذاكرة أطفالنا أخذت لنفسها مكاناً في السلوك النفسي عندهم.. من اكتئاب واستعادة دائمة لشريط الأحداث وما يرافقه من هالات موت فجائي قد تحدث وتربك.

ولهذا في ظل الاستكانة المجتمعية وعدم قدرته على حماية الطفل، تبدأ سيناريوهات جديدة تنمو في مخيلة الطفل، وهنا، خطورة الموضوع.

إذن، بعيداً عن دقة الإحصائيات في تأريخ الكوارث وحالات الموت التي أدت إلى خلل واضح في بنية بعض المجتمعات، نتحدث عن الإعاقة بمختلف ألوانها التي خلّفتها الحروب، وهذا ما يسمى بالصدمة.

سيناريو العنف يتجدد أمام عيون أطفالنا…فماذا نحن فاعلون تجاه هذه المعضلة، وكيف يقف المجتمع حيالها..؟

أغلب الدراسات التي وصفت الآثار النفسية على الطفل، أكّدت ظهور الاضطرابات السلوكية على الطفل بسبب مشاهدة صور القتل والتدمير والقصف والتشوهات، وخطر الموضوع يأتي في عدم الاطمئنان للقادم ..فأطفالنا هم من سيبنون ويعملون..فكيف تكتمل عناصر البناء وهم يحملون معاناتهم ..؟ لا بل يدفعونها كصخرة سيزيف في مواجهة أيام صعبة العواقب..!

صراخ الأطفال، يحتاج إلى مستجيب يُسهم في تعزيز ثقافة السلام، ورفع صوت العقل، وإدراك التبعات السلبية لذاكرة تشوهت، تحتاج إلى عشرات السنين لتعديل مسار الرؤية إن صحت الأمور.

فأصوات الدمار شريط يمرُّ بكل ثقله على أبصار الأطفال، ويتجدد كل حين، وهو ما يزيد تعاستهم وانزواءهم وصولاً إلى حالة ضياع، وهذا ما أكدته إحصائيات اليونيسيف.. إذ جاء فيها أنّ حروب العالم، قتلت مليون طفل ويتّمت مثلهم، وأُعيق ما يقارب أربعة ملايين ونصف مليون، وشرّدت 12مليوناً، وعرّضت 10 ملايين للاكتئاب والصدمات النفسية.. طبعاً الجزء الأكبر من هذه الأرقام، يقع في بلدان العرب والمسلمين.. ويقصد التقرير أطفال فلسطين والعراق ولبنان.

وما نشهده اليوم على الساحة السورية ليس بعيداً عن المشاهد السابقة..التي خلقت حالة من (الفوبيا) في كل ما يتراءى للطفل من أشخاص وأصوات وتغييرات. مشاهد لا تقتصر على الاضطراب فقط، وإنما تجرّ الطفل إلى مشكلات عصبية تؤثر في قدراته العقلية من محاكاته للواقع وارتباطه بمحيطه الأسري…ناهيك بخلق حالة من التشاؤم العام، وضعف التعبير، وكل ذلك يتراكم ويظهرلاحقًا في جيل عرف طعم الحروب، ولم يعرف طعم الهناء.. فالأطفال، كما قيل، لا يفهمون مبررات الحرب كما يفعل الكبار.. فأحد مسؤولي اليونيسيف في العراق، أشار إلى أن أكثر من نصف مليون طفل عراقي سيكونون بحاجة إلى علاج نفسي من الصدمات النفسية التي تعرضوا لها خلال الحرب.

 أما في لبنان، فالأطفال واجهوا مشكلات صحية ونفسية خطيرة، بسبب الحرب التي كان ثلث قتلاها وجرحاها من الأطفال، كما رُصدت تغيرات سلوكية سلبية على الأطفال في مناطق الحرب. وقد أكدت منظمة اليونيسيف أيضاً أنّ الأحداث المروعة تركت آثاراً بالغة في نفوس الأطفال، وأخرى خفية عن الأنظار بدأت تظهر عليهم. وتوقعت المنظمة عودة أمراض الإسهال والرئة وشلل الأطفال والحصبة بين الأطفال الذين شردتهم الحرب. ضربنا أمثلةً عدة عن بلدان وقعت تحت وطأة النار والبارود.. وكما نرى الآن في سورية المعاناة التي تزيد الأمر تعقيداً،من حرمان وفقدان أبسط قواعد الحياة السليمة..إذا أصبحوا أطفالاً بلا هوية…أسئلة عديدة تطرح على بساط النقاش، وهي موجهة إلى المجتمع عموماً، وإلى الأسرة على نحو خاص: كيف نتدارك ما يراه الطفل.. وكيف نروّض فكره على صور أفضل..؟

نعرف أن المشكلات تلاحق الأسرة عندنا، بسبب عدم أهليتها أساساً لمواجهة مثل هذه الحالات.. وافتقار منظومة الحلول المستقبلية…لأسباب تاريخية عدة، من تهميش الدور التربوي في المدارس على الرغم من تدارك الموضوع أخيراً.

إضافة إلى ضعف الثقافة النفسية، وهذا ما جعل البنية النفسية في المجتمع قاب قوسين أو أدنى من الخلل..فما يضيرنا لو خصصت مدارسنا مثلا دروساً لمواجهة مثل هذه الحالات تحت عناوين كثيرة، كالاستعداد للأزمات، كما يحدث في مدارس الغرب الآن. وللأسف الشديد، تعاني الأسرة السورية ضعفاً في التعامل مع مفردات الأزمات، ولهذا يبقى السعي إلى برمجة الأمور ومحاكمتها عقلياً،هو الطريق الأسلم لتجاوز مثل هذه المحن.

العدد 1105 - 01/5/2024