عاقل يحكي… ومجنون يسمع

خذ الحكمة من أفواه المجانين.. يقول المثل المعروف، وأظن  وبعض الظن ليس إثماً  إننا نستطيع تقديم نسخة معدلة ومنقحة من هذا المثل: خذ الحكمة من أفواه المجانين والصدق أيضاً. الأطفال لا يكذبون.. إلا حين تلوثهم ألعاب الكبار، وسرعان ما يرتكب الكبار جريمة تعويد الطفل على الكذب.. أما المجنون فعصيٌّ على التعليم.. عائد إلى فطرته، ولديه (بث مباشر) لكل ما يدور في خلده دون رقابات ولا اعتبارات من أي نوع.

ذلك الطفل الذي صرخ بأن الملك عارٍ، فأثارت وقاحته وتجرؤه على إعلان الحقيقة استهجان الكبار، إذ تواطأ الجميع على وأدها. أظن أنه لم يكن طفلاً فحسب… كان صوت الجنون الجميل أيضاً.

كتب الراحل الكبير ممدوح عدوان: في كتابه القيم والممتع (دفاعاً عن الجنون): 

(كل منا يريد أن يظهر قوياً وعاقلاً وحكيماً ومتفهماً… يدخل الجميع في حالة من البلادة والافتعال وانعدام الحس تحت تلك الأقنعة، فيتحول الجميع إلى نسخ متشابهة مكرورة ومملة..

نحن في حاجة إلى الجرأة على الجنون والجرأة على الاعتراف بالجنون، صار علينا أن نكف عن اعتبار الجنون عيباً، واعتبار الجنون عاهة اجتماعية..).

 

في ستينيات القرن الماضي، ومع تصاعد المد اليساري في المنطقة، نشطت الأحزاب والقوى اليسارية والقومية تحت كل شكل ولون، وصار (التياسر) موضة عند الكثير من القوى والشخصيات حينذاك.

في قرية أم تلال كان الآغا أبو هاشم هو الحاكم المطلق والسلطة الوحيدة، وفيه كل مواصفات الأغوات الذين كانوا يستعبدون الفلاحين الفقراء.

حين شم الآغا رائحة ذلك (الشبح الذي تجوَّل في أوربا) وصار يتنقل الآن في قريته الصغيرة، أراد أن (يكتفي شرهم) بهدوء، خاصة أنهم كانوا يحرضون الفلاحين على المطالبة بحقهم في الأرض، ووجد أفضل طريقة هي تبني فكرهم وتأييدهم والتبرع لهم بمبالغ سخية، خاصة أنهم كلهم من فئة (الأندبوريين).

دعا هؤلاء الشباب إلى مضافته دائماً وأقام لهم الولائم الفاخرة، مثل تلك التي يقيمها لرجال الحكومة، والشباب حين يأكلون من لحم الآغا وبرغله كانوا يخجلون من اتهامه بأنه من الطبقات المستغِلة، ووجدوا مصطلحاً يعبِّر عن حالة الآغا أبي هاشم هو (الانسلاخ الطبقي)، فقالوا عنه في مجالسهم إن الرجل منسلخ عن طبقته، وزاد بعضهم في الطنبور نغماً بوصفه أنه خائن لطبقته، وأوردوا أمثلة من التاريخ الثوري عن هذه الحالة.

هكذا أصبحت مضافة الآغا مركزاً لنشاط الشباب ودعوتهم، وأصبح منزله الكبير مركزاً لإيواء الهاربين من بطش السلطات حينذاك، إذ كانت السلطة حينذاك غير ديمقراطية للأسف، حينذاك طبعاً.

مرة جاء كادر حزبي كبير من المدينة هارباً من ملاحقة السلطة القمعية (حينذاك)، وسكن عند الآغا، بدأ الفلاحون يتوافدون إلى المضافة لرؤية الرجل المهم وسماع ما سيقوله.

 في السهرة الأولى تحدث الرفيق أبو نضال عن الإمبريالية كأعلى مراحل الرأسمالية، وفي الثانية تحدث عن دور الإمبريالية في البلدان النامية، وفي الثالثة تحدث عن الإمبريالية الإعلامية، وهكذا بقيت الإمبريالية محور ندوات الرفيق القادم من أضواء المدينة.

كان سليمو مجنون القرية، ممن يمكن أن نسميهم (المجانين العقلاء)، فلم يكن يركض في الشوارع ممزق اللباس ويلحقه الأولاد، فقد أصيب بمرض نفسي كبير بعد أن تزوج وأنجب دزينة أولاد، وهناك يسمون أي مرض نفسي جنوناً، وبسبب صلة قرابة له مع عائلة الآغا تبنته العائلة هو وزوجته وأولاده، وكانت مهمته خدمة المضافة وتقديم الشاي غالباً للساهرين فيها.

كان سليمو حاد الذكاء، يحفظ أحاديث السهرة، ويطلق تعليقاته بحرية مطلقة، إذ يسمح له ما لا يسمح لغيره.

استمع سليمو إلى الرفيق أبي نضال في الليلة الأولى بانتباهه المعهود، ثم تملكه الملل من أحاديثه في الليالي التالية. ولأنه ضيف عمه الآغا فقد احترمه من البداية ولم يعلق بشيء، فيما الفلاحون كان يتملكهم النعاس من حديث لا يفهمون منه إلا ما يفهمه سليمو نفسه.. .يدخنون من تبغ الآغا ويشربون من شايه، ثم يمضون إلى بيوتهم وكأن شيئاً لم يكن.

أخيراً طفح الكيل مع سليمو، وقرر أن يقول ما عنده ولو كلفه ذلك الطرد من مضافة العم.. .ما إن أنهى الرفيق محاضرته، وكانت عن جرائم الإمبريالية في أمريكا اللاتينية ودعم الأنظمة الدكتاتورية فيها، حتى وقف سليمو وقال :عمي صرلك أسبوع عم تحكيلنا عن الإمبريالية والرجعية والاستعمار.. وإنت قاعد جنبو.. هادا اللي قاعد جنبك (وهو يشير إلى عمه الآغا) هو كل هدول.. فحاج بقى تصرعنا عن شغلات ما منفهمها.

اختصر سليمو كل محاضرات الرفيق بجملة واحدة وضجت المضافة بالضحك، حتى الآغا نفسه دمعت عيناه من الضحك، إلا الرفيق أبو نضال الذي قرر أن ينقل نشاطه إلى قرية أخرى بعد أن أنهى مهمته هنا، وشبع لحماً ومرقاً.

العدد 1107 - 22/5/2024