شباب المستقبل بلا ذاكرة

القتل والتهجير يؤدي إلى توتر يدمّر ذاكرة الطفل

 

 في أعقاب دراسة طبية، جرت تحت إشراف المركز الطبي بجامعة ستانفورد ونشرتها دورية (طب الأطفال)، حذّر علماء أمريكيون من أنّ تعرّض الطفل للتوتر يمكن أن يؤدي إلى تضرر بعض أجزاء الدماغ ويسبب تراجعاً في منطقة (قرن آمون)، وهي منطقة في الدماغ تلعب دوراً أساسياً في معالجة المعلومات الخاصة بالتذكّر والذاكرة الطويلة الأمد.

وشملت الدراسة 15 طفلاً يعيش كل منهم في بيئة تحوي عوامل مختلفة من التوتر والضغوط. وبعد فحص مستوى هرمون (الكورتيزول) لديهم، وإجراء فحص عبر التصوير الشعاعي لأجزاء محددة في الدماغ، إضافة إلى تقييم الحالة النفسية عند كل منهم، تبيّن حدوث ارتفاع في مستوى هرمون الكورتيزول(هرمون التوتر) لدى أغلبيتهم ترتّب عليه حدوث تراجع منطقة قرن آمون في الدماغ.

وأوضح العلماء أن التوتر المقصود هنا لا يتعلق بالتوتر الناجم عن الدراسة أو الجدال مع الأبوين، وإنما التوتر الناجم عن الاضطهاد والاستغلال الجسدي والعاطفي والجنسي.

يتضح من هذه الدراسة حجم الكارثة التي تعصف بالمجتمعات الإنسانية عامةً بسبب الإهمال المتزايد للأطفال والاعتداء عليهم، كونهم نواة مستقبل تلك المجتمعات. وفي سورية بشكل خاص واستثنائي في هذه المرحلة العصيبة والمظلمة من تاريخها، والتي يعمُّ فيها الاضطراب والقهر والحزن والموت اليومي لأطفال ونساء وشباب، كان من الممكن أن يكونوا جميعاً نواة تطور ومستقبل رائع يليق بسورية وأبنائها.

ففي ظلّ ما يجري منذ ما يُقارب العامين، تمّ تدمير كل شيء، وليس فقط ذاكرة الطفولة، مع أنه الأخطر بالتأكيد، فدمار البيوت والبلدان يُمكن تداركه بإعادة البناء، أمّا دمار ذاكرة الطفولة فيعني دمار مستقبل البلاد بأبنائها ومقدراتها في مختلف مناحي الحياة. فأطفالنا الذين عاشوا ما جرى ويجري طيلة هذين العامين من عنف تلاشت معه من نفوسهم وحياتهم براءة تسم مرحلتهم، وتعطيها أبعاداً وآفاقاً رحبة للانطلاق في دروب الحياة عبر تساؤلات بريئة بسيطة تأخذهم لبناء عالمٍ مفعم بالحيوية واكتساب مهارات ترتكز أساساً على تراكم مخزون التجارب وتلك الأسئلة التي دوّنتها الذاكرة. فمن منّا لا تحتفظ ذاكرته بأشياء وأشياء عن طفولته بشغبها وفوضاها وجمالياتها القائمة جميعها على براءة التعاطي وحب الاكتشاف وإثبات الوجود، إضافة إلى كيفية رؤيتنا آنذاك للعديد من الأشياء والأمور بمنظار طفولي يستدعي ضحكنا أحياناً، وأحياناً أخرى يُعيدنا لتلك المرحلة واستقراء كيفية تفكير الأطفال ورؤيتهم للحياة، فنعيد صياغة تعاملنا مع أبنائنا بناءً على ما خزنته ذاكرة الطفولة لدينا. أمّا أطفالنا اليوم، فماذا خزّنت ذاكرتهم غير صور العنف والقتل والتدمير والتهجير وفقدان أحد الأبوين أو كليهما، ليجدوا أنفسهم على قارعة التشرّد والضياع والشعور بالحقد والكراهية تجاه العالم المحيط، فينشأ في المجتمع جيلٌ بأكمله متمرد حاقد كاره لكل شيء، وفوق كل هذا لا يشعر بالانتماء وحب الحياة والوطن.

وهذا يتطلّب من ممارسي كل طقوس العنف والقتل التريّث لأجل أطفال يقع على عاتقهم مستقبلاً بناء وطن يجب أن يكون قائماً على الأمن والأمان والمحبة التي تترعرع في أجواء التعايش بين جميع مواطنيه. كما يستدعي قرع ناقوس الخطر الدولي بحتمية إلزام الجميع بتطبيق الاتفاقيات الدولية المعنية بحماية الأطفال زمن الحرب. طبعاً هذا الكلام فيما يتعلّق بالوضع الخاص والاستثنائي الذي تمرُّ به بلادنا.

غير أن هذا لا يُلغي وجود عنف آخر يُمارس على الطفولة في الحالات السلمية يؤدي إلى نتائج مماثلة لما ذكرت، من قبيل الاستغلال والعنف الأسري والجنسي الذي يتعرض له معظم الأطفال في المجتمع، لاسيما في البيئات المهمّشة والبعيدة عن وسائل وطرائق الحياة القائمة على الاهتمام بالأطفال ورعايتهم بشكل حضاري وتربوي لائق. مما يستدعي اليقظة والحذر، إضافة إلى التشديد على تطبيق بنود اتفاقية حقوق الطفل، مع وجوب رفع التحفّظات عن المواد الهامة والرئيسية فيها، والتأكّد من ذلك بشكل دائم،  وضرورة الاهتمام الكافي من الجهات المعنية بالطفولة، وهي:

أولاً-  الأسرة التي يقع على عاتقها أساساً تربية الطفل تربية سليمة قائمة على مدّه بالخبرات المعرفية اللازمة لتجنب أي أذىً محتمل، بمعنى أن يتمتع الأبوان بالثقافة التربوية اللازمة، لاسيما التربية الجنسية، وإعطاء الطفل الحد الأدنى من المعلومات التي تمنحه التعرّف إلى ما قد يعترضه أو يتعرف عليه من خلال علاقته بالآخرين خارج البيت وداخله. إضافة إلى تأمين مستلزمات حياته الضرورية وتعليمه وتوفير الحماية والرعاية الضروريتين لبناء عالمه النفسي السوي.

ثانياً- الروضة والمدرسة، باعتبارهما العالم المعرفي الثاني للطفل بعد البيت، وعليهما العمل على تفتُّح ذهنه  بشكل خلاّق عبر أساليب عصرية تواكب تطور نمو الطفل واحتياجاته المعرفية على كل المستويات. وهذا يتطلب كادراً مؤهلاً ومثقفاً ثقافة تربوية- تعليمية تعتمد أساليب عملية يحبها الطفل، كالمختبرات بجميع مجالاتها، والملاعب والمراسم والرحلات العلمية والترفيهية الحقيقية التي تضمن تعلّق الطفل بالمدرسة والمدرسين، بحيث يبتعد عن الضجر ومحاولة التسرّب من المدرسة.

ثالثاً- الجهات الحكومية المعنية التي عليها أولاً تطبيق بنود اتفاقية حقوق الطفل الدولية- ورفع التحفّظات عنها- التي تكفل للطفولة الأمان والحماية والرعاية في كل البيئات التي تحتضن الطفل (بيت، روضة، مدرسة،.. إلخ).

هذا من جهة، ومن جهة أخرى العمل على تحسين المستوى المعاشي للأسرة حتى تتمكن من أداء واجباتها تجاه أطفالها وتأمين حياة كريمة تليق بهم، فلا يُضطرون للهرب من المدرسة والالتحاق بسوق العمل في سنٍّ مبكّرة، وما يتبع هذا العمل من أضرار تحيط بكيان الطفل على جميع المستويات. أي على الحكومة تدارك الكثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وكذلك الأخلاقية التي تؤدي لاستغلال الأطفال جسدياً ونفسياً وجنسياً، والعمل على إيجاد بيئة مدرسية جديرة بالطفولة والتعامل معها وفق مقتضيات تطور الطفل والعصر. كذلك تطبيق قانون إلزامية التعليم بجدية بعيدة عما هو متّبع اليوم من إهمال وتسيّب في تطبيق هذا القانون، أو التحايل عليه من جانب مديري المدارس والأهل والشرطة. كما على الجهات المعنية بسن القوانين والتشريعات رفض زواج الأطفال، الذي هو من الناحية النفسية والصحية استغلال بشع يهدم كيانهم النفسي والعاطفي، وبالتالي يؤثر سلباً على الخلية الأساسية للمجتمع.

أيضاً على الجهات التشريعية والقانونية التشدد بتطبيق القوانين التي تنص على معاقبة المجرمين الذين يعتدون على الأطفال بأقصى وأقسى العقوبات، لتكون رادعاً حقيقياً يلجم كل من تسوّل له نفسه الاعتداء على براءة الأطفال ونقائهم، وبالتالي الاعتداء على المجتمع الإنساني.

فهل يعي المسؤولون عن الوضع القائم في سورية اليوم بشاعة وفظاعة ما يفعلون..؟

العدد 1105 - 01/5/2024