أحقاً مات أبو فياض؟

إني أراه مُبتسماً مبتهجاً للحياة بيننا! عندما يفارق الحياة من نحب… كأن الحياة فارقت من نحب.. وليس من نحب هو الذي فارق الحياة! في تلك اللحظات تتجدد ذاكرة تاريخ من نحب… وتتلاهب أشرطتها وجداً على شطآن أيام عشناها وبنينا شيئاً من فِكرِ الحياة للقادمين بعدنا فيها، وكأن من نحب لايزال معنا لحماً ودماً وروحاً وفكراً ينبض بالحياة من أجل حياة لا تموت… من قال إن الحياة تموت… إنها لا تموت، ولكنها تتجدد عقلاً وفكراً في أبنائها الأموات منهم والأحياء على حد سواء!

أبو فياض رسم ابنه فياض تميمة حب ووفاء في ذاكرة فرج الله الحلو، أبو فياض الذي عُرف رمزاً حزبياً متألقاً ثابتاً على مبادئه… دون أن يسلم مفاتيح حزبه… لجلادي (الوحدة العربية)، ذاك أبو فياض فرج الله الحلو اللبناني  السوري الذي أذابت (الوحدة العربية) جسده بماء النار.. وهذا أبو فياض عبدالجليل بحبوح الذي تقلّب على توحش آلية القمع والتعذيب في زمن الوحدة، حتى أصبح جسداً بلا حراك.. ونقل إلى العلاج أيام عز ومجد المعسكر الاشتراكي.. في أوربا الشرقية.. وقد كانت آثار التعذيب التي واجهها الراحل عبدالجليل بحبوح أبو فياض ماضية الأثر بحيث لم تُفارقه إلى أن فارق الحياة.. أفارق الحياة… أم فارقته الحياة؟ إن ذاكرتي ما برحت تنبض به حياً بيننا!

ومنذ أكثر من نصف قرن أبت عائلة أبي فياض في شخص السيدة الفاضلة زينب نبّوه، إلا أن نتجدد صلة وتواصلاً، وكانت علاقة رفاقيتنا على عهدها تشتد تواصلاً ولقاء، لا في سورية ولكن في بيروت.. وكلما حللنا بيروت تنادينا لتجديد لقائنا العائلي الذي أصبح عُرفاً بيننا! أبو فياض عبدالجليل بحبوح كلما اقتربت منه ولامسته عقلاً وفكراً وروحاً وجدته ينبض حباً سورياً لا يُجارى.. وقبل عدة شهور كنا في بيروت وكانت سورية تمزقها آلية الحرب.. وكأن هذه الحرب  القذرة تمزّق روح أبي فياض. ما رأيتُ حباً لوطنٍ كما رأيته في أبي فياض كأن أبا فياض استعجل الرحيل مُحتجاً بعد أن أدمى قلبه نزيف الدم الذي أغرق الشوارع والأحياء والقرى والمدن السورية.. فبقدر ما كان الألم يأكل قلبه ما كان التشاؤم ينال منه ويُحبط تفاؤله بسورية وانتصار سورية وإباء سورية ومجد سورية، وكأنه يردد الآن وهو في قبره: (شآم ما المجدُ؟! أنتِ المجدُ لم يغبِ) للمجد طعم؟!

هل ذاقت الإنسانية السورية طعم المجد مروراً في تاريخها حتى اليوم وهي تتقلب على نيران الحرب التي ما برحت تلتهم اليابس والأخضر، وتُبيد الأطفال والنساء والشيوخ والجنود، وتهدّ المنازل على رؤوس ساكنيها، وتشرد عشرات الألوف إلى خارج الوطن السوري!

إن وجع الأرض من وجع أبنائها.. وكان أبو فياض ابناً باراً شهماً يعيش وجع الأرض ويتوجّع في دمائها النازفة منذ أن تفتحّت عينه بحثاً عن الحرية دون أن يجد لها أثراً على الأرض ولا في عمله لدى وكالة الأنباء السورية (سانا)!

إن حضور الظلم ردحاً من الزّمن كان النتيجة الطبيعية المتوقعة وغير المتوقعة.. ما كان أحد يتوقع ما وقع إلا بعد أن وقع في مأساة الأزمة التي تعيشها سورية: دماراً وإبادة لم يسبق لها مثيل منذ تاريخ بني أميّة حتى يومنا هذا! وبعد من كان يُحب أبا فياض فإن أبا فياض قد مات… ومن كان يحب سورّية فإن سورية ستبقى حيّة لن تموت رغم طواحين الحرب القذرة التي تُمسك بخناقها!

رحم الله أبا فياض الذي ما كفّ قلبه عن نبض حب سورية.. إن أحرّ تعازينا القلبية نسديها إلى السيدة الفاضلة والمناضلة الباسلة زينب نبّوه، وإلى الابن فياض والابنتين وفاء وزويا وإلى الأهل والأقارب والأرحام، والرّفاق والأصدقاء، الصبر والسلوان والدعاء الصالح على روح أبي فياض!

العدد 1105 - 01/5/2024