ثورات وأوهام: هكذا ابتلعت أمريكا الديمقراطية (3من3)

حسناً. ما هي الديمقراطية التي ينظّر لها مروجو بضائع المستوطنين البيض الفاسدة من النيوليبراليين العرب؟ قبل أكثر من ثلاث عشرة سنة، كتبت في (الأهرام ويكلي) المصرية نقداً لمفهوم اليسار الفلسطيني للديمقراطية جاء فيه ما يأتي: (حتى الأحزاب الماركسية الفلسطينية تتبنى نموذجاً متقادماً وفاقد الصلاحية من الديمقراطية يعود للقرن الثامن عشر ويستند أساساً إلى المبدأ النخبوي جداً القائم على فصل السلطات. ورغم أن مبدأ الفصل بين السلطات منحاز اجتماعياً للنخبة ويهدف أساساً لخنق الإرادة الديمقراطية للشعوب، لكن يمكن اعتباره في هذه اللحظة إجهاضاً نظرياً لا أكثر). كان هذا في عام 2000.

اليوم، مع دخول الانتفاضات عامها الرابع، والمفاهيم أصبحت من لحم ودم، فإن الوعد الديمقراطي الزائف للنيوليبراليين العرب ليس خللاً نظرياً فقط. إنه السلاح الانقلابي الأكثر فتكاً للثورة المضادة. ليست الديمقراطية الليبرالية إلا الوجه الآخر لاستبداد الطبقة ذاتها والنخبة ذاتها بوسائل أخرى – هي نظام حكم وآلية أخرى تتمكن عبرها من تجديد شباب هيمنتها.

فالاستبداد لم يكن يوماً استبداد فرد، كما يصور خطاب النيوليبراليين المستبد الفرد ويخترعه. إنه دائماً وأبداً استبداد طبقة، اقتصادي، اجتماعي وسياسي، إلا إذا نسبنا إلى هؤلاء الطغاة (قوة مبادرة فردية لا مثيل لها في التاريخ)، كما قال ماركس في (الثامن عشر من برومير لويس بونابرت) في نقده رؤية فيكتور هوغو في (نابليون الصغير).

وما دام نموذج ديمقراطية المستوطنين البيض يُحَرِّم المسّ ببقرات العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المقدسة، ويبقي على البنى ذاتها التي يستند إليها الاستبداد، وما دامت هذه الديمقراطية لا تمس بأسس الدولة القطرية، ولا تعيد تركيبها بطريقة تؤهلها لتجاوز مرحلة التقسيم الاستعماري، وتضعها على سكة الوحدة، وتفرض تدخلها بالاقتصاد لمصلحة المسحوقين، وما دامت هذه الديمقراطية تسهّل فقط تداولاً سلمياً للحكم بين شرائح الطبقة الحاكمة التي لم يكن الطاغية المستبد أكثر من ممثل لها، فهي ليست أكثر من آلية أخرى للاستبداد الاجتماعي والاقتصادي.

ليست ديمقراطية تلك التي تُؤسس على الامتيازات الطبقية القائمة بدل أن تهدمها. ما يجب تصويبه في النقاش هو ضرورة أن ننزل بالمصطلح من السماء، من رطانة القانون والدساتير، ومن عالم التجريد والمفاهيم إلى أرض الواقع حيث الخبز والماء والسكن والطبابة، وليس صناديق الاقتراع فقط. المطلوب ديمقراطية تُؤسس على العدالة، لا الامتيازات، على المساواة، لا التمايز، على الوحدة، لا التقسيم الاستعماري، ضد التبعية وليس من أجل تعميقها. كل ذلك غير ممكن من دون نسف كل البنى القديمة، بدءاً بالتقسيم والتبعية، ومروراً ببنى الاقتصاد والسياسة والاجتماع. ما عدا ذلك هو إعادة إنتاج للاستبداد بآليات أخرى. سيكون معيباً أن يخدعنا بائعو الأوهام بحيلة عمرها مئتا عام.

خاتمة: تفاؤل الإرادة

إنها (لحظة جيدة ليكون المرء مؤرخاً اجتماعياً)، كتب إريك هوبزباوم قبل أكثر من أربعة عقود في (من التاريخ الاجتماعي إلى تاريخ المجتمع) (ص: 43). قد تكون عبارة المؤرخ الفذ تحوي تلميحاً إلى التطور في حقل التأريخ، إلى تحولات في الخطاب وإشارة إلى شكوك معرفية متجددة تربك كتابة التاريخ باستمرار، أو إلى ابتكارات منهجية شككت في الكثير من الافتراضات التقليدية السائدة في حقل التأريخ.

رغم أنّ الحساسية التاريخية هي أقل ما يهمني في هذه المحاولة المتواضعة، ربما كان علينا فعلاً كتابة تاريخ المرحلة بحذر شديد. إنها قصة أهم وأضخم حدث في التاريخ المعاصر للوطن العربي، القصة المذهلة لشعب بطل لم يتحدّ نخب الوطن العربي فقط، بل منظومة عالمية مهولة من الاستبداد والاضطهاد والاستغلال. بعد ثلاث سنوات من الثورات المدهشة التي فجرت سلسلة من الأحداث الكبرى ولا تزال، أصبح من المهم جداً الانتباه ليس فقط إلى كيف تتكشف الأحداث، بل وأيضاً كيف تم ويتم تسجيلها. فالهجوم النيوليبرالي المضاد على الثورة لم يقتصر على نشر سلسلة من الأوهام حول المواطنة وتمكين الفرد وحقوق الإنسان وغيرها من خرافات مثقفي (الفاست فود) مع عدم المس بالبنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من بقرات رأس المال المقدسة. بل إن الاعتداء على الثورة كان على مستوى الرواية أيضاً، وهو ما سهّل إعادة توجيهها وحتى التنفير من فكرة الثورة. فنحن اليوم أمام رواية مشوهة تصوّر الثورة على أنها فعل يسعى إلى تحقيق أهداف فردية كبديل للمطالب الاجتماعية – الاقتصادية التي فجرتها أصلاً، أمام رواية عن ثورات هدفها تحقيق التداول السلمي للسلطة بين أطراف النخبة دون المسّ بالنظام السياسي والاقتصادي، ولا حتى التفكير في الأسس التي تقوم عليها الدولة. نحن أمام رواية تتجاهل جذور الاستبداد والاستغلال والتبعية المتجذرة في تقسيم استعماري فرض بالقوة على وطننا العربي منذ أكثر من قرنين.

لكن أهم ما في الرواية الحقيقية للشعب العربي أنها تدحض الأوهام عن قوى عالمية وإقليمية ومحلية تم تصويرها على أنها قدر غير قابل للتشكيك ولا مناص منه. لقد بدا الحلم الرائع في متناول اليد حقاً قبل عامين فقط. لهذا، ورغم كل شيء فإن القصة تحمل في طياتها أملاً كبيراً بمستقبل عادل. في عام 2000 استطاعت مجموعة صغيرة، عدة آلاف، من المقاومين العرب في لبنان من هزيمة ما يسمى أعتى قوة في الشرق الأوسط. وفي عام 2006 وفي تكرار بطولي مدهش أكد التفاؤل الذي أنتجه الانتصار الأول، هزمت المقاومة الكيان الصهيوني مرة أخرى. وبشكل مشابه، في تشرين الأول من ،2010 وبالرغم من تحالف عالمي مهول، انتفضت الشعوب العربية.

لمن لا يؤمن بقوة الشعوب وبأن التاريخ لا يقف عند محطة، ربما بدت ثورات العرب حينذاك فعلاً كصاعقة في سماء صافية. لكنها قصة بدأت حقاً عام 1811 مع أول محاولة لتوحيد الوطن العربي. حينذاك، ارتعبت فرائص قوى الاستعمار الأوربية وهي تسمع إبراهيم، ابن محمد علي حاكم مصر وقائد جيشه، يعلن من سورية أنّ هذه الحملة لن تتوقف (إلى أن يتوقف اللسان العربي). مزقت بريطانيا الوطن العربي حينذاك لتمنع التجربة، وأعادت الكرّة مع فرنسا في سايكس بيكو في ،1916 وحسمت أمرها لمواجهة خطر وحدة وحرية العرب على مستقبل الاستعمار بتأسيس كيان استيطاني شطر الوطن العربي ومزّق نسيجه، وجعل حتى من فكرة صياغة فكرة الجماعة العربية وتبلور الوعي القومي العربي في غياب الوحدة الجغرافية مسألة تحدٍّ لم تواجه شعباً آخر على وجه الأرض. هذه قصة شعب بطل استكملها في منتصف القرن العشرين الرئيس العربي الفذ جمال عبد الناصر الذي أسّس أكبر كتلة تاريخية إنسانية في مواجهة الاستعمار الغربي، وكاد أن يصنع التاريخ. هذه قصة شعب مقاوم رائع استكمل فصلها في 2006 القائد العبقري للمقاومة العربية السيد حسن نصر الله الذي قاد معركة إفشال أخطر مشروع معاصر لتأبيد الاستعمار الجديد على الإطلاق تحت مسمى الشرق الأوسط الجديد، برعاية وإسناد أعتى إمبراطورية عرفها التاريخ.

نعم، قد تنتهي هذه الجولة بهزيمة، لكن لا يمكن التشكيك أبداً في أنّ الشعب العربي قد دخل هذه المرة فعلاً وحقاً عصر الثورة. لهذا، سيكون من السذاجة التشكيك في أن الشعب العربي سيضرب حتماً مجدداً. لم يعد السؤال بعد اليوم عما إن كان الشعب العربي سيضرب مجدداً، بل، ومثلما يؤمن كل من يؤمن بالتغيير الثوري، السؤال الآن حقاً هو: متى سيضرب العرب في المرة القادمة؟ (خليكو شاهدين)!

عن «الأخبار» اللبنانية

العدد 1107 - 22/5/2024