القهوة العربية بين الماضي والحاضر

تعدّ القهوة العربية مظهراً من مظاهر الكرامة العربية عبر التاريخ العربي المعاصر، وبها ارتبط عنوان الكرم العربي في البلاد العربية وضمن الحياة الاجتماعية. وكانت وسيلة لحل العديد من الخلافات والنزاعات التي كانت تحدث بين القبائل العربية وأفرادها. فهي تهدئ الأعصاب بعد غضب شديد وتُريح الأسارير من المعاناة التي تحدثها بعض المنازعات والخلافات. ومن أجلها يتم حل تلك الخلافات، وذلك عندما كان العرب يستخدمونها طلباً لفض النزاع بين القبائل والأفراد. وهي رمز الكرم والضيافة العربية، فمهما بلغت تكاليف وليمة دعوة العربي فإنه يدعو ضيفه إلى فنجان قهوة، وقد تغنى بالقهوة العديد من الشعراء العرب، ووصلت إلى حد القدسية عندما كانوا يقسمون العرب بقولهم / وحياة من كوّن القهوة، وجعلها مشروب الغانمين من أجاويد الله/ وأكد ذلك أحد المستشرقين حين قال: إن العرب يحلفون بالقهوة وكأنها قُدُس من أقداسهم، لما لها عندهم من مكانةٍ سامية.

وعن القهوة العربية يذكر الأستاذ زيد سلمان النجم أن الشرق العربي اعتاد أن يبدأ يومه بفنجان قهوة بصحبة أحبته وأصدقائه، حتى إذا ما أراد أن يحل مشكلة ما مع شخصٍ ما يقول له (سوف نشرب عندك فنجان قهوة)، وبالتالي لا يستطيع رفض الطلب، لأن رشف القهوة يهدّئ الأعصاب ويوصل إلى حل يرضي المتخاصمين. ومع عبق القهوة وأريجها يسود الوئام والتسامح وينتفي الخصام والعداوة، وتعدّ القهوة باعثة الفكرة وملهمة الشاعر والمبدع، ومعها يتجلى الإبداع بأحلى صوره وأشكاله وألوانه.

يعود تاريخ القهوة العربية واكتشافها إلى أهل اليمن في جنوب شبه الجزيرة العربية، وذلك عندما كان أحد الرعاة في عدن يحتطب أغصان شجرة البن اليابسة من أجل الدفء، فصدرت منها رائحة زكية منعشة تشرح الصدر وتجدد النشاط وتطرد النعاس، حتى إذا تناول قطيع الراعي من تلك الشجرة (البن) ازداد نشاطه وحيويته.

كذلك يعود تسميتها بالقهوة إلى الشيخ أبي بكر بن عبد الله الشاذلي الملقب بالعيدروس لأنها تُقهي الإنسان عن الزاد والنوم وتساعده على السهر والعبادة. وقد برع في إعدادها وتقديمها مشفوعة بالمعاني حتى انتشرت ضمن العادات في الصحراء العربية وبادية الشام. ويرجع انتشار القهوة العربية في دمشق إلى عام 1540م حين قدم إليها الشيخ علي بن محمد الشامي وأخذ يبيت إلى جانب قبر الشيخ محيي الدين بن عربي، ويشهر القهوة بين أهالي دمشق آنذاك. ومنذ القرن السادس عشر الميلادي أصبحت القهوة مشروباً شعبياً واسع الانتشار.

الفارس والشاعر العربي راكان أبو الحثلين أظهر للقهوة تأثيراً ساحراً حين قال فيها:

يا ما حلا الفنجان مع سيحة البال

في مقعدٍ ما به نفوسٍ ثجيله

هذا ولد عمٍ وهذا ولد خال

وهذا رفيجٍ ما ندوّرْ بديله

وأضاف الشاعرعبد الله بن محمد الناشئ عن تناول القهوة بأنه طيب وازدياد خلق بقوله:

إذا ما انتشى الحُرُّ من كأسِها

دَعَتُهُ إلى الخلُقِ الأفضلِ

والعرب يقولون بأن خير القهوة من الحديد على الحديد، ولا تلامسها كفوف العبيد، وأيضاً خيار القهوة لا ملموسه ولا منغوسه.

 

أدوات استعمال القهوة منها

المحماسة، والمبردة، والمهباج أو المهباش، وبعضهم يسمونه الجرن أو النجر. ويقول ابن منظور في معجمه أن هَبَشَ و هَبَجَ تعني طرق الخشب بالخشب، ومنها جاءت التسمية. وبعضهم يسميه المهراس، والآخر بدلاً من المهباج يسمونه جرناً نحاسياً يدعى الهاون، وهو شائع الاستعمال في شبه الجزيرة العربية وسيناء والنقب جنوب فلسطين وعربستان وفي المناطق الشرقية من العراق.

الدّلال: مفردها دَلَّة، وهي مجموعة من الأباريق النحاسية أشهرها البغداديات والصالحاني الدمشقية. وهي تقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: المصب أو البكرج أو الغلاية، التي تحوي قهوة البكر المضمخة بحب الهال، تقدم للضيوف.

والثاني: الطباخ وهو أكبر من المصب، توضع به القهوة المحمسة المهروسة مع البكر.

والثالث: ما يتبقى في الطباخ يضاف إليه ماء فيسمى التشريبة.

الفناجين: أول ما شربت القهوة في فناجين من الخشب، ثم من النحاس والفضة، حتى شاع استخدام الخزف بأشكالٍ متعددة، وأفضلها ما صنع في الصين، إذ يقول الشاعر:

قم سوي ما يجمد على الصين يا عيد

بدلال يشدن البطوط الردافِ

صُبَّهْ على وجوه الرفاقة الأجاويد

وعن النذل لو تنحرف ما ينافِ

واستمرت القهوة تقدم بدون ثمن حتى جاء الأتراك وأضافوا إليها السكّر حتى أصبحت تعرف بالقهوة التركية، وافتتحوا لها المقاهي وبدؤوا بيعها.

 

القهوة والتراث العربي

احتلت القهوة عند العرب مكانة مميزة وصلت إلى مقام السيف والرمح والفرس، وأكبر عقوبة معنوية للرجل عدم شرب قهوته، ومن يظهر بطولة وبسالة في معارك الشرف والكرامة والذود عن الأرض أول من يقدمون له القهوة تكريماً وتشجيعاً له.

أما إذا رُزئ العربي بوفاة أحد الغالين عليه فإنه يكافأ بدلال القهوة فوق رماد النفيلة تعبيراً عن حزنه. وعبر الشاعر والفارس عبيد بن الرشيد، شيخ قبيلة شمر، في رثائه لابنه المتوفّى في ريعان الشباب بقوله:

يا بو الغَلا… تبكيك بيض الدلالي

وتبكيك عذرا ترقم النيل بخدود

وتبكيك صفرا لون أم الغزالي

صفرا تهش الذيل والراس مشدود

ومن المألوف والمعروف بأن القهوة تقدم في المآتم بالمدن الكبيرة.

وهناك مجموعة من الواجبات التي يجب أن يتقيد بها المضيف للمستضيف أثناء تقديمه القهوة العربية، وتلك العادات والتقاليد والأعراف ملتصقة مع أفعال العرب.

العدد 1105 - 01/5/2024