«أنثوية العلم» العلم من منظور الفلسفة النسوية.. قراءة في المقدمة

(أنثوية العلم) كتاب جديد تماماً في موضوعه وأسلوبه وأهدافه، إذ هو يسعى نحو واقع أفضل للعلم ودوره الحضاري، منطلقاً من أكثر مواطن العلم تقدماً واتقاداً. يستشرف آفاقه المستقبلية مستنداً إلى أبعاده التاريخية، ويفاجئنا بحديث جديد مختلف تماماً عن الأحاديث المعهودة في أروقة العلم والثقافة العلمية وفلسفة العلم ومنهجه، حديث مختلف تماماً في مبناه ومعناه ومبتغاه.

بهذه النظرة، بدأت د. يمنى طريف الخولي مقدمتها لكتاب (أنثوية العلم) تأليف د. ليندا جين شيفرد، الذي قامت د.الخولي مشكورة بترجمته إلى العربية، ليكون رافداً راقياً للمكتبة العربية عموماً، وللحركة النسوية على وجه الخصوص، من خلال نظرة جديدة تماماً لموضوع العلم الذي بقي قروناً طويلة واقعاً تحت سيادة الثقافة الذكورية التي ربطت العقل بالرجل والعاطفة بالمرأة. ولأن العلم هو نجيب العقل الأثير، وفارس الحلبة المعرفية، فقد صبغته السلطة الذكورية بقيمها وسيمائها وملامحها، واستبعدت عنه الأنوثة والخصائص والخبرات الأنثوية باعتبارها ضدّ العلم، وعملت على حجبها ليبدو الرجل هو الفاعل الوحيد للعلم ولكل فعل حضاري مهما كانت خسائر هذا الزعم.

تطرّقت د. الخولي في مقدمتها إلى السؤال المحوري والهام الذي يقوم عليه الكتاب إذ قالت:

(قد يبدو للوهلة الأولى أن الكتاب انتصار لقضية المرأة في المجال العلمي، وربما يصدق هذا إلى حدٍّ ما من زاوية جزئية، لكنه ليس لبّ الموضوع، ولا غايته، ولا هو السؤال المحوري. السؤال المحوري الذي يجيب عنه الكتاب مفاده أن العلم أكثر حيوية وفاعلية وجاذبية من أيّ منشط إنساني آخر، فلماذا يبدو صعباً ثقيل الظلّ، عسير المراس؟ لماذا تجرده النظرة الشائعة من أبعاده الإنسانية، حتى إنه يوضع كمقابلٍ، كضدٍّ صريح للإنسانيات، في حين أنه أكثر إنسانية من أيّ منشط آخر؟ لماذا يشعر العلماء أنهم بمعزل عن نبض الحياة الدافقة خارج أبواب المختبرات، أو حتى في أعماق النفس البشرية المتفانية داخل المختبر؟ والأدهى، والأخطر من كل هذا، كيف يُنتج العلم دماراً بيئياً يُهدد الحياة على سطح الأرض، فضلاً عن إنتاجه أسلحة الدمار الشامل الصريحة، وبعض ممارسات تعصف بإنسانية الإنسان؟).

والجواب الذي يطرحه الكتاب مفاده، أن كل هذه الأسئلة تعود لسبب أن العلم يبدو جهماً وجافاً بسبب سيادة الثقافة الذكورية التي ربطت العقل بالرجل، والعاطفة بالمرأة. ليس الرجل هو الإنسان، وليست الذكورية مرادفة للإنسانية، كما أن المرأة ليست جنساً آخر أو نوعية أدنى من البشر. إن الذكورة والأنوثة هما الجانبان الجوهريان للوجود البشري، لكلٍ منهما خصائصه وسماته ودوره، وتتكامل جميعها في سائر جوانب الحضارة الإنسانية، وعلى رأسها أمضى الجوانب وأشدّها فاعلية وحسماً، أي العلم.

وتضيف د. الخولي: (وحين نكشف النقاب عن حقيقة العلم والممارسة العلمية، العلم بوصفه كياناً تتكامل فيه سائر الخصائص الإنسانية الإيجابية، الذكورية والأنثوية على السواء، وليس الذكورية فقط كما هو سائد الآن، فسوف يبدو لنا العلم أكثر جاذبية وحيوية، أكثر كفاءة وفاعلية وتحقيقاً للأهداف المجمع عليها، يؤدي إلى حصيلة أكثر سخاءً وتوازناً، وأقل أضراراً جانبية، من قبيل تدمير البيئة، وتصنيع أسلحة الدمار الشامل واتخاذه أداة لقهر الثقافات والشعوب الأخرى).

فالنسوية الجديدة هي فلسفة للمرأة بقدر ما هي فلسفة للبيئة، بقدر ما هي فلسفة لتحرر القوميات. ومن هذا المنطلق، يحاول الكتاب الوصول إلى هذا الهدف، إلى إظهار الجانب الحي المحجوب أو المخفي والمطمور من العلم عن طريق البحث عن عناصر الأنثوية في واقع الممارسة العلمية، وفي البحوث والمكتشفات العلمية الراهنة. إن الأنثوية صفات كامنة في الوجود البشري، ويمكن للعلماء(رجالاً ونساء) أن يبحثوا في هذه الجوانب، ويعملوا على إذكائها من أجل علم أكثر دفئاً وإنسانية مادام سيغدو أكثر تكاملاً وتوازناً. وليس المقصود هنا علماً أنثوياً مقابل العلم الذكوري لتكون الحرب العلمية بين الجنسين معلنة بعد أن كانت مضمرة، إنه العكس تماماً، فالمقصود هو وجود علم يتكامل فيه الجانبان مداواةً لانفراد الذكورية بما حمله من نواتج سلبية.

بشكل عام، النسوية هي كل جهد نظري أو عملي يهدف إلى مراجعة واستجواب أو نقد أو تعديل النظام السائد في البنى الاجتماعية التي تجعل الرجل هو المركز، هو الإنسان، والمرأة جنساً ثانياً أو آخر من منزلة أدنى، فتُفرض عليها حدود وقيود، وتمنع عنها إمكانات النماء والعطاء، فقط لأنها امرأة. ومن جهة أخرى تُبخَس خبرات وسمات علمية أو سواها فقط لأنها أنثوية، لتبدو الحضارة في شتى مناحيها إنجازاً ذكورياً خالصاً يؤكّد ويوطّد سلطة الرجل، وتبعية أو هامشية المرأة.

وهنا، تستعرض د. الخولي أصول نشأة الحركة النسوية وأهدافها وغاياتها، بدءاً من ظهورها في الفكر الغربي مطلع القرن التاسع عشر حين صيغ مصطلح النسوية لأول مرة في العام1895 ليُعبّر عن تيار ترفده اتجاهات عدة. وقد كانت هذه الحركة حركة اجتماعية سياسية أولاً وأخيراً. كما كان لكتاب- الجنس الثاني- للفيلسوفة الوجودية سيمون دي بوفوار عام 1949 وإعلانه أن المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح امرأة بفعل قوانين وقيم المجتمع الدور الهام والأساس في عمل الحركة. من هنا، ترفض فلسفة العلم النسوية التفسير الذكوري المطروح للعلم، محاولة تقديم تفسير آخر يُبرز دور المرأة وقيمتها الأنثوية. فكتاب أنثوية العلم هو من أغنى تلك المحاولات.

تقول د. شيفرد مؤلفة الكتاب في أحد فصول كتابها:

(…. وبينما أشعر بخيبة الأمل والخوف بشأن الطريقة التي نتخيّرها لاستغلال قوة العلم، أشعر أيضاً بالاحترام لتلك القوة، وتبجيل إنجازاتنا العقلية. إني لعميقة الاهتمام بما يحدث على سطح هذا الكوكب للنوع البشري، وللأنواع الأخرى على السواء… وأحسب أن الأنوثة الكامنة في كلّ منّا، هذا الجزء منّا الذي يرى الحياة في سياق التواصل المتبادل بين كل الأشياء وعواقب أفعالنا على الأشياء المقبلة يمكن أن تساعد في إبراء جراح كوكبنا).

وتتابع في مكان آخر من الكتاب: (الكثيرون يساورهم القلق بشأن تأثير التكنولوجيا في البيئة، والبعض يحمّلون العلم مسؤولية الدمار الذي لحق بكوكبنا ، آخرون يرون أن العلم يمكن أن يكون أداة تُستخدم للحسن أو القبيح.. ولا ريب أن المغامرة العلمية الجليلة قد زوّدتنا بمعارف مرموقة عن الكون، وأنتجت أدوات معجزة لتحسين ظروف البشرية، إلاّ أنه مع التسربل بدثار النجاح المهيب للمقاربة الموضوعية، تمّ تجاهل أو طمس سبل أخرى لدراسة الطبيعة).

إن مؤلفة الكتاب، وانطلاقاً من حماستها الكبيرة لقضيتها، أرادت أن تجعل الذكورية السائدة هي الفلسفة المفروضة على العلم، بينما الأنثوية واقع محجوب نكتشفه برفع اللثام عنه. من هنا جاء الكتاب أكثر غوصاً في الواقع والوقائع ليحمل إقناعاً بدعاوى فلسفة العلم النسوية، أقوى من عشرات العروض النظرية للأسانيد والمنطلقات.

من هنا نجد أن الأنثوية هي اكتشاف الذات، هي مرحلة متقدمة من النسوية بعد أن بلغت ذروة النضج والنماء حين قدمت في العقدين أو الثلاثة الماضية الفلسفة الخاصة بها. لقد باتت فلسفة العلم النسوية من الاتجاهات اللافتة والواعدة بالجديد في هذا المضمار، من حيث أنها من أبرز تيارات الفلسفة المعاصرة.

 

 

الكتاب: أنثوية العلم

العلم من منظور الفلسفة النسوية.

المؤلفة: د. ليندا جين شيفرد

ترجمة: د. يمنى طريف الخولي

صادر عن مجلة (عالم المعرفة)، العدد306 لعام 2006

العدد 1105 - 01/5/2024