ربيع في الخليج

غالباً ما يتجلّى الربيع في أرض خصبة، والخصوبة دليل نقاء وعذوبة، كما الربيع ابتسامة الأرض والفضاء بالأزهار والنسائم. لا أعتقد أن أرضاً خالية من الحقول تعرف الربيع، ولا أعتقد أيضاً أن حقولاً مفعمة بالاخضرار يأتيها نيسان ولا تزهر. فالقضية قانون طبيعي، لكنها تحمل أيضاً في ما تحمل شيئاً خليطاً من الحب والخير والسلام.

حين أسموا ثوراتهم ربيعاً عربياً، هل كانت مشيخات الخليج بريئة من هذه التسمية؟ أم أنها حاولت إظهار ربيعها على حقيقته، فأتانا على هذا النحو الممعن في دمويته ووحشيته؟ هي تدرك أن الرمال لا تزهر، وأن الزيت لا يمكنه تغيير لونه، لذلك سافر ربيعهم حاملاً معه ألوان الدمار والحرائق، ولذلك أيضاً سيعود إليهم أكثر حنقاً وغيظاً، بعدما صدّه ربيع الشام الحقيقي، ربيع الياسمين والأناشيد والمحبة.

رحم الله أيام البداوة والخيام، قبل أن تتأمرك تلك الأرض، وقبل أن يلوّث الزيت شطآن الأصالة، فيجعلها مكبّاً لنفايات العالم، من رعاة البقر خلف المحيطات إلى عبدة ما لا يُعبد في أطراف آسيا. رحم الله أيام الإبل والشعر والحداء، رحم الله أيام لمعان حبات الرمل المذهّبة، أيام القبائل والعشائر، حين كانت تقوم حروب وحروب من أجل كرامة أُهينت، أو عنفوان مسّه التطاول. كل ذلك أصبح في ذمة تاريخ لا أهل له بعدما استُبدلت المرسيدسات بالنوق، واستُعيض عن اللبن بالقار. وإن كان سادة تلك البلاد ما زالوا يحافظون على كوفياتهم، فما ذلك سوى أوامر وتعليمات حاخامية.

تقول حكاية على لسان شاعر: إنه حين اكتُشف النفط في الخليج هُرع الناس باتجاه الآبار، وكانوا يركبون حميرهم، فمن سبق ووصل أولاً صار سيد القصر الوهمي، وبقي بقية الناس حاشية وخدماً للقصر ولسيّده الوهمي أيضاً. هكذا يُصنع السادة على الطريقة الغربية، وفي المطبخ الغربي، ويبقى السادة الحقيقيون مهمّشين عند أطراف الرمل المتحرك، فهل يدرك السادة الوهميون حركة الرمل الكاشفة للزيف والنفاق والخداع؟ وهل يدركون أيضاً أن الصلبان المعقوفة المخبأة في صدورهم سيصير لها دور كبير في تسريع حركة الرمال، وفضح القلوب والعقول الممتلئة زيوتاً آسنة؟ هل يعي أولئك المتأمركون خطورة ما يفعلون؟ إنهم لا يدركون ولا يعون، لأنهم صُنعوا على هيئة أصنام تنطق بأمر، وتمشي بأمر، وتبتلع ألسنتها بأمر، وصاحب الأمر مدرك وعارف.

ثورات الربيع العربي تجرّ أذيالها لترحل عن بلادنا، وعيون الثوار الحقيقيين مصوبة إلى بلدان أخرى، بلدان لا يمكن أن تستقيم أمورها من دون ثورات حقيقية قادرة على إصلاح أحوال البلاد والعباد، وإعادة السادة الحقيقيين إلى أماكنهم، والوهميين إلى الأماكن البديلة. فالزيت قادر على أن يصنع ربيعاً، فقط حين ترسمه أصابع الثوار، وحناجر المقهورين الذين لا يخطئون دروبهم، فما زالت بقايا الأصالة تستحثهم، وستعود لهم القرارات كلها في تحريك الرمال بالطريقة التي يشاؤونها.

الثورات الحقيقية تحتاج إلى دم حار يفجرها ويتحكم بمسارها، تحتاج إلى رجال عيونهم ثابتة النظرات صوب غد قادر أن يحمل ويترجم الآمال والأماني للناس الذين رفضوا سباق الحمير للوصول إلى القصور. إلى أولئك أهدت الشام وتهدي عطر ياسمينها، وألوان ربيعها، صارخة بوجوه كل من يحمل وجهاً، أنها الأم الأولى لحضارات هذا العالم.

العدد 1107 - 22/5/2024