إرث المرأة بين حرمان الأهل وأحكام القانون

رغم ما شهدته العقود الأخيرة من تطور ملحوظ في واقع المرأة على جميع الأصعدة والمستويات، إلاّ أنّ فئة كبيرة من النساء مازالت تعاني ظلماً اجتماعياً يتجلّى في قيام الأب أثناء حياته بتوزيع أملاكه على أولاده الذكور حارماً الإناث منها استناداً إلى معتقدات وتقاليد تقضي بعدم جواز وصول أموال وممتلكات العائلة إلى أيدي غرباء عنها (الأصهار وأولادهم الذين لا يحملون اسمها، فيضيع مجد العائلة التليد ويلحق العار بها) مما يؤدي إلى نتائج اجتماعية خطيرة كارثية في بعض الأحيان. فحرمان الابنة قد يوقعها في عوز مادي شديد، خاصةً أنّ هذه العادات غالباً ما تنتشر لدى فئات جاهلة تكون المرأة فيها محرومة من أيّ تحصيل علمي أو عمل يكفل لها تأمين احتياجاتها فتقع تحت السلطان المطلق لزوجها الذي يترسّخ لديه الشعور أنّها مجرد خادمة تخلّى عنها أهلها وتخلّصوا منها بتزويجها منه، فلا يبقى لديها أمل في حياة مستورة سوى رضاه عنها، فليس لها أن تعترض على أيّ تصرّف يقوم به مهما كان مشيناً كي لا تجد نفسها دون مأوى أو معيل، أو ضيفة على زوجة شقيقها (طبعاً في منزل أبيها سابقاً) حيث تصبح الحياة عبئاً ثقيلاً، فضلاً عن إمكان أن تحلّ ضيفاً على أماكن أخرى كمأوى العجزة أو مشفى الأمراض العقلية وغيرها.

وقد وجدتُ من المناسب أن أعرض ما يمكن للمرأة التي تتعرّض له من ظلم في ضوء ما أتاحه القانون السوري من مجال لإبطال بعض التصرّفات انطلاقاً من إيماننا بأنّ حرية المرأة تقتضي معرفتها بحقوقها وبطرق استعادتها، وذلك خير وأجدى من إطلاق الشعارات التي تمجّدها وتدين الظلم الواقع عليها والتي لم تجد في الكثير من المناسبات آليّة عملية لتطبيقها، وبقيت مجرد شعارات نظرية جميلة. ولابدّ هنا من التمييز بين عدّة حالات:

أولاً  عندما يقوم الأب في حياته وصحته ووعيه بكامل إرادته بالتصرّف بأمواله تصرّفاً منجزاً بتوزيعها على أولاده الذكور دون الإناث، فإنّ هذا التصرّف وإن كانت تعوزه الأخلاق فهو للأسف تصرّف قانوني سليم لا يمكن ليد القانون أن تطوله، انطلاقاً من حرية الفرد في التصرّف بماله على النحو الذي يراه. ولو كان التصرّف بغير عوض أو كان القصد منه حرمان بعض الورثة. ويبقى هذا الفعل مداناً أخلاقياً واجتماعياً. وأنا أرى أنه يرتّب التزاماً أخلاقياً طبيعياً بذمّة من جرى التصرّف لمصلحته ألا يقبل حرمان شقيقاته من حقّهن في أملاك والدهن.

ثانياً  هناك حالات يستغل فيها بعض الأبناء حالة والدهم العقلية عندما تتقدّم به السن، فيقنعونه بالتصرّف بأمواله لهم وحرمان شقيقاتهم. وهذه الحالة عالجتها المادة 115 من القانون المدني السوري، إذ نصّت على بطلان تصرّفات المجنون والمعتوه إذا صدر بعد شهر قرار الحجر أو كانت حالة الجنون والعته شائعة وقت التعاقد، أو كان الطرف الآخر على بيّنة منها. وبالتالي فإنّ من حقّ المتضرّر أن يقيم دعوى إبطال التصرّف لإعادة ملكية المال المتصرّف به إلى الأب أو إلى الورثة بعد وفاته حسب الأنصبة الإرثية. علماً بأنّ من الممكن إقامة الدعوى في حياة الوالد بوساطة قيّم تنصّبه المحكمة الشرعية بطلب من المتضرّر، مع الإشارة إلى أنّ حالتي الجنون والعته يمكن إثباتهما بالتقارير الطبية وبسماع الشهود.

ثالثاً- وهي الحالة الأكثر شيوعاً، إذ يقوم الأب بنقل ملكية أمواله إلى أولاده الذكور أثناء إصابته بمرض عضال لا يرجى منه شفاء، وهو ما يسمى (مرض الموت). ومرض الموت كما عرّفه الفقه والاجتهاد القضائي )المرض الذي يقعد المريض عن قضاء مصالحه ويغلب فيه الخوف من الموت، وأن يؤدّي فعلاً إلى الوفاة قبل مرور سنة على وقوع التصرّف… وقد عالجت هذه الحالة المادة 877 من القانون المدني السوري، عندما اعتبرت أنّ كلّ عمل قانوني يصدر من شخص في مرض الموت ويكون مقصوداً به التبرّع يعتبر مضافاً إلى ما بعد الموت، وتسري عليه أحكام الوصية أياً كانت التسمية التي تعطى لهذا التصرّف. هذا وقد عرّف قانون الأحوال الشخصية الوصية أنّها (تصرف في التركة مضاف إلى ما بعد الموت). ولما كان وبموجب المادة 238 منه فإنّ الوصية للوارث لا تنفذ ما لم يجزها بقية الورثة بعد وفاة الموصي، وعليه يمكن للابنة التي حرمت من حقها بالإرث أن تقيم دعوى إبطال التصرّف لوقوعه أثناء مرض الموت، وتطلب إعادة الأموال إلى اسم المورث ليصار إلى توزيعها على الورثة حسب أنصبتهم الإرثية. ويمكن لها إثبات مرض الموت بجميع وسائل الإثبات، وبضمنها التقارير الطبية والشهادة. هذا وقد أقامت المادة 877 قرينة قانونية مفادها أنّه إذا ثبت أنّ التصرّف قد وقع من المورث أثناء مرض الموت عُدّ صادراً على سبيل التبرّع ما لم يثبت من صدر له التصرّف عكس ذلك، بمعنى أنّه مهما كانت التسمية التي أعطاها الأطراف للتصرّف (بيع – هبة…) فإنّه يعد صادراً على سبيل التبرّع أي دون عوض وينقلب عبء إثبات دفع الثمن أو البدل على عاتق من وقع التصرّف لمصلحته، وبالتالي لا تكلّف المدعية إثبات أنّ التصرفّ قد صدر بغير عوض وعلى المدعى عليه أن يثبت أنّه قد دفع ثمن الحق الذي آل إليه فعلاً .

رابعاً – عندما يقوم المورث بالتصرّف لأحد ورثته مع احتفاظه بأيّة طريقة كانت بحيازة العين التي تصرّف بها وبحقه في الانتفاع بها مدى الحياة كمن يقوم بتسجيل الدار التي يملكها بأسماء أبنائه الذكور فقط ويبقى مقيماً فيها حتى وفاته مع قيامه بتسجيل حق الانتفاع بها لنفسه في السجل العقاري، فإنّ حكم هذا التصرّف حسب المادة 878 قانون مدني هو حكم التصرّف المضاف إلى ما بعد الموت، وتسري عليه أحكام الوصية المذكورة في الفقرة السابقة. ويمكن للمتضرّر من التسجيل أن يطعن في صحته طالباً إبطاله استناداً إلى أن لا وصية لوارث إلا بإجازة باقي الورثة بعد وفاة الموصي. وذلك ما لم يثبت من صدر التصرّف له أنّه قد أوفى المؤرث ثمن العين المتصرّف بها، أي أنّ هذه المادة قد أقامت أيضاً قرينة قانونية على أنّ التصرّف قد وقع على سبيل التبرّع، ونقلت عبء إثبات دفع العوض على عاتق المتصرّف له.

وفي الختام لا بد من التنبيه إلى أن الأحكام آنفاً لم تشرّع لمصلحة المرأة فقط، وهي أحكام عامة، لكنّ الواقع العملي أثبت أنّها أكثر من يمكن أن يستفيد منها باعتبارها الطرف الذي غالباً ما تهدر حقوقه ويلحق الغبن به نتيجةً للمعتقدات الخاطئة المشار إليها في مقدمة الدراسة، والتي تنبع من عدم قدرة البعض على الاقتناع بأنّها كائن بشري يحق لها العيش بكرامة، وأن تستفيد من الخيرات التي يجنيها والداها، وأنّ دورها في الحياة ليس خدمة الرجل وإنّما بناء الأسرة والمجتمع والوطن بالمشاركة معه وعلاج هذه المشكلة يحتاج بالدرجة الأولى إلى تطوير المجتمع بجناحيه (الأنثى والذكر) وبثّ الوعي فيه بما يكفل القضاء على الذهنيات الرجعية البالية التي تكرّس التفرقة بين الجنسين.

العدد 1105 - 01/5/2024