الأجور والأسعار (2من2)

يتقاضى العامل من الرأسمالي الذي يشغله أجرة قدرها 3 ماركات في اليوم. ولقاء هذه الأجرة، يشغله الرأسمالي، لنقل 12 ساعة في اليوم. وفي هذه الحال يفكر الرأسمالي على النحو التالي تقريباً:

لنفترض أن العامل – وهو محكم مثل – إنما يترتب عليه أن يصنع قطعة آلة وينتهي منها في يوم واحد. ولنفترض أن المادة الأولية – الحديد والنحاس الأصفر بشكلهما الضروري المحضر سلفاً – تكلف 20 ماركاً، وأن استهلاك الفحم في الآلة البخارية واستهلاك هذه الآلة البخارية نفسه، والمخرطة وسائر الأدوات التي يشتغل بها العامل، يبلغ، في يوم واحد، وبالنسبة لما يصرفه العامل، ما قيمته مارك واحد. لقد افترضنا أن أجرة العامل 3 ماركات في اليوم. وهكذا تبلغ تكاليف قطعة الآلة 24 ماركاً بالإجمال. ولكن الرأسمالي يحسب أن يحصل من زبائنه على ثمن وسطي قدره 27 ماركاً أي بزيادة 3 ماركات عن النفقات التي قدمها.

فمن أين جاءت هذه الماركات الثلاثة التي يضعها الرأسمالي في جيبه؟ إن الاقتصاد السياسي الكلاسيكي يؤكد أن البضائع تباع بصورة وسطية حسب قيمتها، أي بأسعار تناسب كميات العمل الضرورية التي تنطوي عليها هذه البضائع. فكأن متوسط ثمن قطعة الآلة التي اتخذناه مثالاً – أي 27 ماركاً – يساوي قيمته، يساوي العمل المتجسد فيها. ولكن 21 ماركاً من أصل هذه الماركات الـ27 كانت قيمة موجودة قبل أن يبدأ صاحبنا المحكم العمل، منها 20 ماركاً تنطوي عليها المادة الأولية، ومارك واحد ينطوي عليه الفحم المحروق أثناء العمل أو الآلات والأدوات التي استخدمت لهذا الغرض ونقصت صلاحيتها للعمل بما يوازي هذا المبلغ. تبقى 6 ماركات أُضيفت إلى قيمة المادة الأولية. ولكن هذه الماركات ال،6 كما يقرّ به اقتصاديونا بالذات، لا يمكنها أن تنجم إلا من العمل الذي يضيفه عاملنا إلى المادة الأولية. وهكذا فإن عمله مدة 12 ساعة قد خلق قيمة جديدة قدرها 6 ماركات؛ وبالتالي فإن قيمة عمله مدة 12 ساعة تعادل 6 ماركات. وعلى هذا النحو نكون قد توصلنا آخر المطاف إلى اكتشاف (قيمة العمل).

(قف!) – يهتف بنا محكمنا – (6 ماركات؟) ولكني لم أقبض إلا 3 ماركات! إن الرأسمالي يحلف الأيمان المغلَّظة أن قيمة عملي مدة 12 ساعة لا تساوي إلا 3 ماركات وإذا طالبت ب،6 فإنه يسخر مني. فما معنى هذا؟).

وإذا كنا بلغنا سابقاً بقيمة العمل إلى حلقة مفرغة، فها نحن أولاء الآن نتوه تماماً في خضمّ تناقض لا مخرج منه. لقد فتشنا عن قيمة العمل ووجدنا أكثر مما كان ينبغي لنا. فإن قيمة 12 ساعة عمل هي 3 ماركات بالنسبة للعامل، و6 ماركات بالنسبة للرأسمالي الذي يدفع منها للعامل أجرة 3 ماركات ويضع في جيبه الماركات الثلاثة الباقية. وهكذا يكون للعمل بالتالي لا قيمة واحدة، بل قيمتان اثنتان ومتباينتان كل التباين أيضاً!

ويزداد التناقض خراقة، ما إن نعيد القيم المعبَّر عنها نقداً إلى وقت العمل. ففي ساعات العمل ال12 نشأت قيمة جديدة قدرها 6 ماركات، أي 3 ماركات في 6 ساعات، وهو المبلغ الذي تلقاه العامل لقاء 12 ساعة عمل. وهكذا فإن العامل يتلقى لقاء 12 ساعة عمل ما يعادل منتوج 6 ساعات عمل. إذن، إما أن يكون للعمل قيمتان إحداهما ضعف الأخرى، وإما أنّ 12 تساوي 6! وفي الحالين كليهما، نصل إلى محال، إلى خرق. ومهما بذلنا من الجهود، فإننا لن نخرج أبداً من هذا التناقض، ما دمنا نتحدث عن شراء العمل وقيمة العمل وبيعهما. وهذا ما حدث بالضبط لأصحابنا الاقتصاديين. فإن الشعبة الأخيرة من الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، ونعني بها مذهب ريكاردو، قد انهارت، لعجزه، بالدرجة الأولى، عن حلّ هذا التناقض. فقد وقع الاقتصاد السياسي الكلاسيكي في مأزق. وكان كارل ماركس هو الذي وجد السبيل للخروج من هذا المأزق.

إن ما اعتبره الاقتصاديون نفقات إنتاج (العمل)، إنما كان، لا نفقات إنتاج العمل، بل نفقات إنتاج العامل الحيّ نفسه. وما يبيعه العامل للرأسمالي ليس عمله. يقول ماركس: (وما إن يبدأ العامل عمله حقاً، حتى يكف عمله عن أن يكون ملكه، ولذا لا يعود بوسعه أن يبيعه). فأكثر ما يستطيع أن يبيعه هو عمله المقبل، أي أن يقطع على نفسه عهداً بتحقيق عمل معين في أجل معين. ولكنه، والحال هذه، لا يبيع عمله (الذي سيقوم به في المستقبل) إنما يضع تحت تصرف الرأسمالي لمدة معينة (في حالة الأجرة اليومية) أو للقيام بعمل معين (في حالة الأجرة بالقطعة) قوة عمله مقابل أجر معين؛ فهو يؤجر أو يبيع قوة عمله. غير أن قوة العمل هذه مرتبطة بشخصه ارتباطاً وثيقاً لا يمكن فصم عراه. ولذا فإن نفقات إنتاجها تطابق بالتالي نفقات إنتاجه هو بالذات. وما كان يسميه الاقتصاديون نفقات إنتاج العمل إنما هي بالضبط نفقات إنتاج العامل، وبالتالي نفقات إنتاج قوة العمل. وبوسعنا أن نعود هكذا من نفقات إنتاج قوة العمل إلى قيمة قوة العمل، وتحديد كمية العمل الضروري اجتماعياً لإنتاج قوة عمل من كيفية معينة، كما فعل ماركس في قسم شراء قوة العمل وبيعها («الرأسمال»، المجلد الأول، الفصل الرابع، الباب الثالث.) ولكن ماذا يحدث بعد أن يبيع العامل قوة عمله إلى الرأسمالي، أي بعد أن يضعها تحت تصرفه مقابل أجر متفق عليه سلفاً – سواء أكان أجراً يومياً أم أجراً بالقطعة؟ إن الرأسمالي يقود العامل إلى مشغله أو إلى مصنعه حيث تتوافر جميع الأشياء الضرورية لعمله من مواد أولية، ومنتجات ثانوية (فحم، أصباغ، الخ.)، وأدوات، وآلات. وفي هذا المشغل أو في ذاك المصنع، يشرع العامل يكدح ويعمل. وأجرته اليومية، كما سبق أن افترضنا آنفاً، 3 ماركات، – سواء أكسبها بالمياومة أم بالقطعة، فالأمر سيان. ونحن نفترض أيضاً في هذه الحال أن العامل، بعمله مدة 12 ساعة، إنما يضمِّن المواد الأولية المستخدمة قيمة جديدة قدرها 6 ماركات، وهذه القيمة الجديدة يحققها الرأسمالي ببيع القطعة بعد الانتهاء من صنعها. ومن هذه الماركات الستة، يدفع 3 ماركات للعامل، ويحتفظ لنفسه بالماركات الثلاثة الباقية. وهكذا، إذا خلق العامل في 12 ساعة قيمة قدرها 6 ماركات، فإنه يخلق في 6 ساعات قيمة قدرها 3 ماركات. فهو إذن، حين يشتغل 6 ساعات للرأسمالي، يرد للرأسمالي ما يعادل الماركات الثلاثة التي قبضه، أو الأجرة. فبعد 6 ساعات عمل، يكون كل منهما قد أبرأ ذمته تجاه الآخر ولا يترتب لأحدهما على الآخر أي شيء.

وإذا الرأسمالي يصرخ الآن: (رويدك! لقد استأجرت العامل ليوم كامل، ل 12 ساعة. و6 ساعات ليست سوى نصف يوم. إذن، اكدح واعمل حتى تنتهي أيضاً الساعات الست الأخرى – وحينذاك فقط، يبرئ كل منّا ذمته تجاه الآخر!). ويجب على العامل أن يخضع بالفعل للعقد الذي قبِل به (بملء إرادته) والذي تعهد فيه بالعمل 12 ساعة كاملة مقابل منتوج يكلف 6 ساعات عمل.

والحالة نفسها تماماً في العمل بالقطعة. لنفترض أن عاملنا يصنع في 12 ساعة 12 قطعة من البضاعة عينها. وكل قطعة تكلف ماركين من المواد الأولية واستهلاك الآلات، وتباع بماركين ونصف مارك. فإذا استندنا إلى الافتراضات السابقة نفسه، فإن الرأسمالي يعطي العامل 25 بفينيغا بالقطعة، أي أنه يعطيه مقابل 12 قطعة 3 ماركات ظل العامل يكدح 12 ساعة لكسبها. أما الرأسمالي، فيقبض مقابل الـ12 قطعة 30 ماركا؛ وبعد حسم 24 ماركا من هذا المبلغ مقابل المادة الأولية وتلف الآلات يبقى 6 ماركات يدفع الرأسمالي منها 3 ماركات أجرة ويضع في جيبه 3 ماركات كما في الحالة الأولى. ففي الحالة الثانية أيضاً، يشتغل العامل 6 ساعات لنفسه، أي تعويضاً لأجره (نصف ساعة في كل من الـ12 ساعة) و6 ساعات للرأسمالي.

إن الصعوبة التي تحطمت عليها جهود خيرة الاقتصاديين، ما داموا قد انطلقوا من قيمة (العمل) تزول ما إن ننطلق من قيمة (قوة العمل) لا من قيمة (العمل). فإن قوة العمل هي في مجتمعنا الرأسمالي الحالي، بضاعة كجميع البضائع الأخرى، ولكنها مع ذلك بضاعة من نوع خاص تماماً. فإنها بالفعل تتصف بميزة خاصة تتقوّم في كونها قوة تخلق القيمة، في كونها ينبوع قيمة، بل أكثر من ذلك، إذ إنها تخلق عند استخدامها بصورة ملائمة، قيمة تفوق القيمة التي تملكها هي نفسها. وفي حالة الإنتاج الراهنة، لا تنتج قوة العمل الإنساني فقط في يوم واحد قيمة أكبر من القيمة التي تملكها والتي تكلفها هي نفسها؛ فلدن كل اكتشاف علمي جديد، لدن كل اختراع تكنيكي جديد، يزداد هذا الفائض من المنتوج اليومي لقوة العمل على كلفتها اليومية، وبالتالي يقل القسم من يوم العمل، الذي يقدم فيه العامل ما يعادل أجره اليومي، في حين يزداد من جهة أخرى القسم من يوم العمل، الذي يضطر فيه إلى تقديم عمله للرأسمالي دون أي مقابل. هكذا هو النظام الاقتصادي لكل مجتمعنا الحالي: فإن الطبقة العاملة وحدها هي التي تنتج جميع القيم. لأن القيمة ليست سوى شكل آخر للعمل، ليست سوى التعبير الذي تُعيَّن به في مجتمعنا الرأسمالي الحالي كمية العمل الضروري اجتماعياً المتجسد في بضاعة معينة. ولكن هذه القيم التي ينتجها العمال لا تخص العمال. إنما تخص مالكي المواد الأولية، والآلات، والأدوات، والسلفيات المالية التي تتيح لهم شراء قوة عمل الطبقة العاملة. وهكذا لا يعود إلى الطبقة العاملة من مجمل المنتجات التي تبدعها سوى قسم فقط. إن القسم الثاني الذي تحتفظ به الطبقة الرأسمالية، والذي يترتب عليها على الأكثر أن تتقاسمه أيضا مع طبقة الملاكين العقاريين، يزداد أكثر فأكثر، كما سبق أن رأينا، لدن كل اكتشاف واختراع جديد، في حين أن القسم العائد إلى الطبقة العاملة (محسوبا بالنسبة لكل فرد من أفرادها) إما أنه لا يزداد إلا ببطء شديد وبصورة طفيفة لا يُؤبه لها، وإما أنه يجمد على حاله وإما أيضاً أنه ينقص في بعض الأحوال. ولكن هذه الاكتشافات والاختراعات التي يزيح بعضها بعضاً بسرعة متزايدة على الدوام، وهذا المردود من العمل الإنساني الذي ينمو كل يوم بمقاييس لم يُسمع لها مثيل، إنما تستثير في آخر المطاف نزاعاً لا بدّ أن يودي بالاقتصاد الرأسمالي الراهن. فمِن جهةٍ، ثروات لا عدّ لها وفائض من المنتجات لا يستطيع المستهلكون شراءه. ومن جهة أخرى، السواد الأعظم من أفراد المجتمع الذين تحولوا إلى بروليتاريين، إلى أجراء، وغدوا بالتالي عاجزين عن امتلاك هذا الفائض من المنتجات. وانقسام المجتمع إلى طبقة صغيرة لا حد لغناها، وإلى طبقة كبيرة من الأجراء غير المالكين، يجعل هذا المجتمع يختنق بوفرته بالذات، في حين أن الأغلبية الكبرى من أفراده تكاد تكون غير محميّة، أو حتى هي غير محميّة إطلاقاً من غائلة البؤس المدقع. وهذا الوضع، إنما يشتد يوماً بعد يوم ما يتصف به من طابع أخرق لا فائدة منه. ولذا فإن إزالته ضرورية وممكنة. ومن الممكن قيام نظام اجتماعي جديد، تزول فيه الفوارق الحالية بين الطبقات- ربما بعد مرحلة انتقال قصيرة، عجفاء إلى حد م، ولكنها على كل حال مفيدة جداً أخلاقياً – بفضل استخدام قوى المجتمع الإنتاجية الهائلة القائمة استخداماً منهاجياً، وبفضل استمرار تطور هذه القوى، وبفضل العمل الإلزامي والمتساوي بالنسبة للجميع، – توضع أيضاً وسائل الحياة والتمتع بالحياة والتطور والإفادة من كل مواهب الجسد والفكر تحت تصرف الجميع وبوفرة متنامية على الدوام. والدليل على أن العمال يوطدون العزم أكثر فأكثر على الظفر بهذا النظام الاجتماعي الجديد عن طريق النضال إنما يقدمه لنا من على جانبي المحيط يوم أول أيار (مايو) غداً ويوم الأحد القادم، 3 أيار (مايو).

العدد 1107 - 22/5/2024