أبو الوفا

ما إن تنقطع الكهرباء عن حيّنا حتى يسرع جارنا أبو الوفا إلى إطلاق الشتائم، لا يوفّر أحداً من وزارة الكهرباء، هذه الوزارة المنحوسة، والمغلوبة على أمرها. وأنا هنا لست في وارد الدفاع عنها، ولا عن أية مؤسسة حكومية، لأنني على يقين من أن الفساد صار مكوّناً طبيعياً من البيئة الذهنية العامّة للغالبية العظمى من موظفي الدولة. ولكنني في الوقت ذاته أرى أن وزارة الكهرباء تحديداً قدّمت فوق طاقتها، للتخفيف من أعباء الأزمة وانعكاسها على المواطنين، فقد تحوّلت مؤسساتها الصغيرة والكبيرة إلى ورشات عمل ليلاً ونهاراً، فنادراً ما يدوم عطل كهربائي سوى ساعات قليلة.

المهم في الأمر أن جارنا أبا الوفا يخرج إلى الشارع ويبدأ السباب، وسرعان ما يجتمع حوله رهط من أصحابه، فيشاركونه الاحتجاج والاستنكار لتكاسل عمال الصيانة، وقد يتطوّر الأمر إلى اتهامهم بأن انقطاع الكهرباء مقصود، وفي هذا الحي تحديداً بسبب وقوفه إلى جانب الفئة الفلانية صاحبة التأييد المطلق للنظام، أما بقيّة الأحياء فأبو الوفا ورهطه يراهنون أن الكهرباء لا تنقطع عنها. ومن خانه الحظ ودافع عن عمال الكهرباء فسوف يُتّهم بما لا يخطر على باله، وربما يصير انتماؤه الوطني موضع شكّ.

جارنا أبو الوفا يمتلك بناية من أربعة طوابق، فيها أربعة محالّ تجارية، اثنان منها لبيع المفروشات والأدوات الكهربائية والمنزلية المستعملة، ومكتب عقاري، والآخر مغلق دائماً، لكنني منذ يومين اكتشفت أن المحل المغلق يفتح فقط بعد منتصف الليل، فيستقبل الشاحنات المحمّلة بالأدوات المنزلية. الميزة الجميلة في جارنا هي أنه يبيع بالتقسيط المريح، وهذه الميزة جعلت معظم سكان حيّنا مدينين له، فلا يجرؤون على انتقاده، وإنما في أحسن إيمانهم يسكتون ويبتعدون عنه، ليتحاشوا التلوّث السمعي الصادر من صوته القوي.

معظم أولاد أبي الوفا الذكور يؤدّون الخدمة العسكريّة، لكنهم نادراً ما يغيبون عن الحي، ولا أحد يتساءل عن أسباب وجودهم الدائم في الحيّ، فهم يديرون محلاتهم التجارية بابتسامات ورثوها عن أبيهم، ابتسامات لا تغيب عن وجوههم إلاّ ليحلّ محلّها ما عذب من كلام.

في الآونة الأخيرة بدأت الشائعات تسري عن سرقات البيوت التي هجّر أصحابها، وبدأ رجال الأمن بتسيير دوريات مفاجئة على المحلات المشبوهة، فاضطرّ جارنا لإغلاق محلاّته عدّة أيام، الأمر الذي أثار ريبة الناس حول مصدر البضاعة التي تغص بها محلاّته. لكنه ما إن خفّت حركة الدوريات حتى عاد إلى فتح المحلات  وإنارتها بما يليق بها أن تُنار، كما بدأت حركة الشاحنات الليلية تقلق راحة جيران أبي الوفا، كل ذلك من دون أي اعتراض من أحد، كما عاد هو ورهطه إلى عادتهم عند انقطاع الكهرباء.

ولأن التيار الكهربائي ينقطع بالفعل كثيراً، فقد يجد الناس مبرراً لانزعاج أبي الوفا وغضبه، فهو لديه مصالحه التي تتأثر من انقطاع الكهرباء. وحين يأتي عمال الصيانة لإصلاح الشبكة يستقبلهم أبو الوفا أحسن استقبال بابسامته وبحديثه الذي أورثه لأبنائه. لكن ورشة الصيانة الأخيرة اكتشفت ما لم يكن في الحسبان، حينذاك تجمهر الناس أمام البناية غير مصدّقين ما يرونه. البناية بكامل طوابقها منارة من الشبكة مباشرة، ومن دون أية عدادات، فالعدادات شبه متوقفة، والأسلاك معلّقة على الشبكة الرئيسة بشكل عشوائي.

جارنا أبو الوفا لم يدفع… بل هو دفع ولكن لم يرضَ رجال الصيانة بالمبلغ… أعوذ بالله يا جماعة… أبو الوفا لا يهمّه المال، لكن التشديد هذه الأيام كشف الحقيقة. تكاثرت الأقوال والتحليلات حول أبي الوفا، قبل أن يعود إلى سابق عهده في الابتسام والبشاشة، وقبل أن يعود أبناؤه الذكور إلى الحارة، فقد غابوا عدّة أيام، ربّما كانوا يخدمون العلم بالفعل، وربّما حصلوا على إجازات من أبيهم إلى حين تهدأ الشائعات، وتهدأ النفوس.

العدد 1105 - 01/5/2024