من فيض الذاكرة

السماء صافية، وأشعة الشمس الأرجوانية تطبع على الرمال الصفراء لوناً أحمر، وصريراً يأكل حواف الرخام الأبيض، ويقضم أحرف الكلمات المتعّلقة على قناطر الشواهد..

قبور مسطّحة، تخوض عليها قوافل النمل والسحالي والحرادين، تتعربشها مشاريع نباتات ضعيفة غضّه، ما أن ترفع رؤوسها الخجولة حتى يقطفها الموت، فتندثر هي الأخرى.

يندثر الكلام، ويطبق الصمت.

بخطاً واجفة دخلت ذلك المكان.

الصمت الحزين يطفو فوق صوت حفيف أشجار الصنوبر الشامخة.

رهبة تدسّ قشعريرة تحت جلدي، أتنفّس عَبق التراب الأحمر، يدخل إلى صدري محمولاً على رفات رعيل من الشهداء آثروا متعة اللقاء في هذا المكان العابق بالأصالة.

جلسنا نتحدث، فعانقتني الذاكرة تفرض عليّ أن ألجأ إليها، كي تبقيك في مشهد البقاء الروحي، فسافرت إليها، أقتطف منها ما يليق بمناسبة ذكرى استشهادك، كما أفعل في كل تمّوز.

وها أنا ذا يا أخي، أفتح الصفحات الصفراء، في الذكرى الثانية والأربعين لاستشهادك النبيل، أنثر ما فيها منذ الساعة السادسة والنصف من صباح يوم خميس التاسع من نيسان 1936 إطلالتك الأولى على زيتون عكا..

كتب والدي – رحمه الله – في مذكّراته بما يتعلّق بغسّان ملخّصاً أقتطف منه:

(غسّان طفل هادئ يحب أن يكون وحده في غالب الأوقات. مجتهد ويميل إلى القراءة، يحب الرسم حباً جمّاً، مهمل وغبر مرتّب ولا يهتم بملابسه وكتبه وطعامه، وإذا ذهبنا إلى البحر، وغالباً ما نفعل – كان بيتنا قريباً من الشاطئ- يجلس وحده.. يصنع زورقاً من ورق، يضعه في الماء ويتابع حركته باهتمام.

قال لي مرة وكان عمره سبع سنوات:  بابا أنا أحب الألمان أكثر من الإنكليز!

سألته: لماذا ؟ قال:

 لأن الإنكليز يساعدون اليهود ضدّنا.!)

وعندما جاءت أحداث 25 نيسان 1948 يوم الهجوم الكبير على عكا، هذا اليوم الذي عاشه غسّان بكل تفاصيله، بأحداثه المأساوية التي جرت أمام عينيه، فقد كان بيت جدّي لأمي، حيث أقمنا بعد رحيلنا من يافا، ملاصقاً للمستشفى الوطني الذي كان يستقبل في كل لحظة الجرحى والقتلى.

ولا أريد أن أستفيض بسرد التفاصيل المأساوية التي عشناها، فقد أتى الكثيرون على ذكرها، وهي لا تختلف بشكل أو بآخر عن الظروف التي عانى منها الشعب الفلسطيني بكامله في تلك المرحلة الصعبة.

وقد يكفي أن أقول أن مجرد القدرة على البقاء قيد الحياة كان يعتبر إنجازاً ليس له مثيل.

يوم 9/8/1949 كان اليوم الأول الذي يخرج فيه غسّان برفقة شقيقه غازي للعمل (عرضحالجي) كاتب استدعاءات، على آلة كاتبة مستأجرة أمام (بناء العابد) – مجمّع المحاكم بدمشق سابقاً، والعودة مساءً للعمل أيضاً مع الباقين في طيّ ملازم الكتب والصحف والمجلاّت لصالح المطابع القريبة بأجور زهيدة.

كان سلاحه القلم، كَتب فأوجَع، وحرّض الجيل على النضال والقتال، وأطلق مقولته الشهيرة: (خيمة عن خيمة تفرق)، بين خيمة اللجوء، وخيمة القرار، ولأنه أوجع الغزاة الصهاينة بقلمه، وضعت الموساد (الإسرائيلية) تحت مقعد سياّرته عبوة ناسفة قدّرت زنتها ب 9 كيلو غرامات من ال (تي. إن. تي) شديد الانفجار..!

في الساعة الحادية عشرة من صباح يوم السبت 8 تمّوز 1972 انفجرت العبوة، واستشهد غسّان كنفاني مع الصبّية لميس نجم، ابنة أخته الغالية فايزة.

أخيراً.. يا أخي وصديقي ومثلي الأعلى والأغلى.

هذه بعض الحقب التي كانت غائبة عن علم من كتبوا عنك وأرّخوا لك ودرسوا مآثرك.

وها أنا ذا أسمعك تردد من جديد:

 بعد الموت تتبدّل الأشياء، يسافر دم القربى عبر المسافات، يمهّد سبل الخلاص للقادمين.

رحم الله الشهيد غسان كنفاني، وكل الشهداء الذين قدموا أرواحهم مهراً لفلسطين!

 

العدد 1107 - 22/5/2024