التحالفات والأزمات

قد لا يكون هناك رابط مباشر بين نشوء التحالف والأزمة بالضرورة، إلا أن الأزمات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تدفع إلى التفكير بالتحالفات، للخروج منها، لأن الأزمة حالة انتقال من مرحلة إلى أخرى، وقد تكون مفتاح التطور والتغيير نحو الأفضل، أو التقهقر والهلاك، لذلك تعتبر الحاجة ماسة إلى برنامج أو أكثر من أجل إيجاد مخارج سياسية واقتصادية واجتماعية للأزمة، وذلك بإنضاج تحالفات سياسية واضحة ومحددة، لضبط آليات التغيير ومخارجه بأبعاده ومستوياته المتراكمة، لتشكيل الوعي الاجتماعي والسياسي الجديد، بحوارات وطنية جادة وملموسة.

أما إذا كانت التحالفات عفوية، وسريعة، وغير مدروسة، وليست مبنية على أساس فكري، فإن مصيرها سيكون الفشل المحتم.

وهناك الكثير من هذه التجارب، في دول العالم، ومنها تجربة 14 آذار في لبنان، و(الائتلاف الوطني العراقي) في العراق، والجبهة الوطنية التقدمية في سورية، وذلك قبل أزمة الربيع العربي.

أما بعد (الربيع) فلا يكاد يمر شهر، دون الدعوة أو الإعلان عن تحالفات وجبهات جديدة، وقد يكون أبرزها التحالف الجبهوي الذي ضم 12 حزباً شيوعياً ويسارياً وقومياً في تونس.

وأخيراً (تحالف قوى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية) الذي ضم 10 أحزاب يسارية مصرية، إثر قيام (جبهة مصر بلدنا) الذي ضم أحزاباً ليبرالية وشخصيات عامة في مصر، والكثير من التحالفات الأخرى في سورية وغيرها. سواء على أساس معارضة أو موالاة، في داخل كل بلد أو خارجه، إضافة إلى الدعوات لتوحيد مواقف اليسار أو اليمين هنا وهناك. وبنظرة سريعة إلى هذه التحالفات نجدها قامت على أساس رد فعل لإرضاء الشارع، أو مناهضة الجهاد التكفيري والإسلامي السياسي عموماً، أو على أساس انتخابي،  أو بالاعتماد على شخصيات عامة، كبطاقة مرور من خلال شهرتها أو لاعتماد التمويل. وقد لا تكون مثل هذه التحالفات سيئة بالمطلق. إلا أنه يحكمها الإحباط في العمل السياسي، والهروب للأمام عبر الشعبوية. ولا يمكننا أن نتجاوز واقع أن التحالفات عادة تكون بين حزبين أو أكثر، وغالباً ما يجمعها أفكار متقاربة، وقد تكون لخوض انتخابات أو حكم بلد أو حتى منطقة، أو جهة إدارية، وغالباً ما تكون لكل طرف سياساته الخاصة، ولكنه يختار مؤقتاً أن يضع الخلافات جانباً، لمصلحة الأهداف المشتركة، وفي بعض الحالات يكون التحالف انتخابياً حصراً، رغم الخلافات السياسية الحادة بين الأطراف المتحالفة، وهذه المبادئ يعمل بها في معظم الدول الديمقراطية. وغالباً ما يكون التحالف هو تنسيق عمل مشترك بين قوى سياسية واجتماعية متباينة المنطلقات السياسية والفكرية والتنظيمية، ولكن يجمعها حد أدنى من أهداف مشتركة.

وقد يكون التحالف تكتيكياً مؤقتاً، أو استراتيجياً، وقد يكون واسعاً لتحقيق أهداف محددة، وينقضي بعد انقضاء الهدف.

ويمكن أن يحتفظ كل حزب باستقلاليته السياسية والفكرية والتنظيمية.

ونحن بوصفنا شيوعيين دخلنا مثل هذه التحالفات، في النصف الثاني من القرن الماضي، وجلّها كانت تحالفات أفقية لتحقيق مطالب فلاحية أو عمالية أو طلابية، وقسم منها مناطقي. كما ورد في كتاب عبد الله حنا (من الجبل العلوي إلى عاصمة بني أمية دروب الكفاح للطلائع اليسارية ودور دانيال نعمة ورفاقه).

أما التحالفات الأوسع فكان يحكمها، حسب المفهوم النظري، الارتباط بإنجاز مهام الثورة الوطنية، لذلك كانت بين طبقات وفئات محددة، وفي إطار المرحلة الوطنية الديمقراطية.

لذلك كنا نطرح بأننا دخلنا الجبهة الوطنية التقدمية في مطلع سبعينيات القرن المنصرم تحت شعار: (1 الدفاع عن مصالح العمال والفلاحين. 2 الحفاظ على وجه الحزب المستقلّ. 3 التحالف مع الأحزاب والقوى البرجوازية الصغيرة).

من هنا يبرز أن مشروعنا الجبهوي كان ثلاثي الأبعاد: إصلاحياً لا تغييرياً، واقتصادياً اجتماعياً وتحررياً، وخاصة لتحرير الجولان ورفض العدوان والتدخلات الاستعمارية، وبذلك كانت العناوين متداخلة ومتكاملة بهذا الشكل أو ذاك.

ولم يتحقق طموحنا بأن تضع الجبهة الخطط والبرامج بشفافية، وتصدر قراراتها بالإجماع، وعدم أحقية أي طرف الإعلان منفرداً أي قرار باسم الجبهة، وأن يسود الاستقلال الفكري والتنظيمي والسياسي، لكل حزب من أحزاب الجبهة، دون وصاية أو إكراه، إلا أن بعض الأطراف التي تنازلت بإرادتها عن حقوقها، والحليف الأكبر الذي استأثر بالقرار والسلطة، أضعف هذه الطموحات، التي لو أخذ بها لكانت بلادنا ارتقت إلى مصاف الدول الديمقراطية التعددية النموذجية، ولتجنّب ما نحن فيه الآن. ولم يدرك أن الجبهة ليست وسيلة لصعود حزب أو جماعة للاستئثار، وإنما هي جبهة للتحرر والديمقراطية والتعددية. وإنما هي تحالف تاريخي نموذجي لمراحل عديدة بعيداً عن عقلية التفرد، لأن التحالفات لا تأتي برغبات ذاتية أو حزبية، وإنما يفرضها الواقع والحاجة الموضوعية، ونظام دولة المواطنة، لا دولة الحزب الواحد. ولا يمكن لأي منصف أن ينكر الدور الكبير للجبهة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولولاها لما صمد شعبنا في وجه المؤامرات على سورية الحبيبة.

يبرز الآن وعي متزايد بأهمية العمل المشترك والتحالفات، وهذا يدل على نضج سياسي ظاهري، غير مبني على اعتبارات نظرية أو فكرية محضة، وإنما الأساس فيه هو وطأة الهيمنة السياسية، ومما يعقد المشهد السياسي والاجتماعي بعد الربيع العربي تقدّمُ الأصولية للحلول محل الاستبداد، مما جعل الخيارات ملتبسة، في ظل أزمة في الخطاب الديني والسياسي والفكري، وصعوبة إطلاق الأحكام القطعية في العمل السياسي. لذلك لا بد من دراسة الواقع والتضاريس السياسية والجغرافية الفكرية لمستقبل بلادنا. وإذا كانت التجارب السابقة في التحالفات لم توصلنا إلى مراكب النجاة، وأثر الربيع العربي، وتعدد الأحزاب، وارتفاع أصوات الجهاد التكفيري والتسويق لملاذ الإسلام السياسي، فلا بد من إعمال الفكر، وقد تكون التجربة الدانماركية، طريق الخلاص، فقد مرّ الدانماركيون بالتجربة ذاتها تقريباً، فكانت لديهم أحزاب كبيرة وأخرى صغيرة، قديمة وحديثة، ولذلك حلوا أزمتهم بصناعة كتلتين على أساس فكري واضح المعالم:

الكتلة الزرقاء وترمز للتيار الليبرالي، وتضم جميع الأحزاب الليبرالية من أقصى يمين الفكر الليبرالي إلى أقصى يساره، وكتلة أخرى حمراء تضم جميع أحزاب الفكر اليساري من أقصاها إلى أدناها. وبذلك وضعوا خريطة للتكتلات السياسية على أساس فكري. أما في بلادنا فيمكننا إضافة لون ثالث كالأخضر أو الأسود أو الأصفر وليكن لكتلة الوسط أو أي مسمى، آخر ولتضم كل من لا ينتمي إلى اليمين أو اليسار.

العدد 1105 - 01/5/2024