ما قاله أوباما وما لم يقله

كان الهم الرئيسي في خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن الاتحاد  هو الوضع الداخلي، وخصوصاً على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي. حاول الاحتفاظ بولاء ملايين الناس في الولايات المتحدة الذين يعانون أزمة اقتصادية طويلة الأمد.

وبهذا المعنى كان مشابهاً جداً لخطب حال الاتحاد التي ألقاها رؤساء أمريكيون في القرن الماضي في أزمنة الأزمة الاقتصادية والصعوبات التي تعانيها الجماهير، ابتداءً من هربرت هوفر في عام 1930 إلى فرانكلين روزفلت في عام 1934 وريتشارد نيكسون في عام 1947 ورونالد ريغان في عام 1982.

قال روزفلت في عام 1934 بعد أربعة أعوام من الكساد الأعظم: (نحن بلا ريب في عملية التعافي). ولكن هذا تطلّب ستة أعوام أخرى من المعاناة الشديدة. وانتهى الكساد من خلال تدخّل كارثة أسوأ بعد، هي الحرب العالمية الثانية.

بدأ توسع كبير في الصناعة في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين، وتكيفت مع الِإنتاج من أجل الحرب، التي كانت قد بدأت في أوربا. وخلال بضعة أعوام أصبح عشرات الملايين العاطلين عن العمل سابقاً إما في الجيش أو يعملون في الصناعات الحربية.

معاناة اقتصادية.. ولكن لماذا؟

ومثل معظم الرؤساء الآخرين، لم يقدم أوباما تفسيراً لماذا ساء الوضع الاقتصادي كثيراً بالنسبة للكثيرين. وأخذ هؤلاء يرون في الانكماش والكساد حقيقة من الحياة، مثل الطقس السيئ.

من المهم ملاحظة أنه من بين جميع الرؤساء المذكورين هنا، وحده هوفر تحدث في خطابه عام 1930 صراحة عن (فائض الإنتاج) كسبب للكساد المحتوم حينذاك، مع أنه لم يشرح ماذا يعني ذلك.

مضى الآن أكثر من خمسة أعوام على انفجار فقاعة الإسكان وأصبح النظام المالي بيتاً من ورق. وبدأ ملايين العمال ييأسون من إمكانية تحسّن الأمور يوماً ما. لم ينسوا أن الحكومة أسعفت المصارف، ويسألون متى ستعفيني أنا؟!

يعرف مستشارو أوباما وكتاب خطبه أن استطلاعات الرأي تظهر تحولاً واضحاً نحو اليسار في الولايات المتحدة. تقول الأكثرية الساحقة من السكان الآن إن الهوة المتسعة بين الأغنياء والفقراء هي المشكلة الرئيسة.

يقولون إن الأجور منخفضة جداً

لذلك أرادت رسالة أوباما التأكيد من جديد للقاعة الانتخابية للحزب الديمقراطي أن إدارته تضع مصالحهم في قلبها، وسوف تركز على خلق فرص عمل جديدة، وليس خلق أزمة جديدة). وقال إنه متأكد من أن الإنسان الذي يعمل بجهد ويتحمل مسؤولية سيفوز في أمريكا.

ولكن البارز أكثر كان وعده بزيادة الحد الأدنى للأجور للعاملين في قطاع الدولة (يسمونهم المقاولين) إلى عشرة دولارات وعشرة سنتات للساعة. وحصل هذا الوعد على الكثير من التصفيق من الجانب الديمقراطي من الكونغرس. ولكن ما يجدر ذكره هنا هو أن العمل لدى الحكومة الاتحادية، خلافاً لأزمنة سابقة، لا يضمن حصول الإنسان على دخل آمن من مناسب لإعالة أسرة. وعشرة دولارات الآن تشتري أقل من الأجر الأدنى قبل سنوات.

أكد أوباما حقيقة أنه إذا لم يقرّ الكونغرس التشريع المطلوب فسيفعل ذلك بنفسه، أي باللجوء إلى مايسمى بالأوامر التنفيذية للتشريع أو أخذ القرارات ذات الطابع التشريعي دون اللجوء إلى الكونغرس. وهكذا تبين أن للرئيس بعض السلطة في نهاية الأمر.

ولكن معظم ما هو نصف وعد في كلامه كان مرتبطاً ب (العمل مع الكونغرس). في نظام سياسي يسيطر عليه كلياً حزبان رأسماليان يخضع كلاهما لإملاءات البيزنس الكبير، وحيث يسري في الكونغرس الروتين المسمى (الشرطي الجيد والشرطي السيء) ثمة ضمانة تقريباً بعدم إجازة إلا قلة من القوانين التقدمية عموماً، ويمكن دوماً إلقاء اللوم عن الإخفاق على الحزب الآخر.

قال أوباما إنه يقدم (مجموعة من المقترحات المحددة والعملية لتسريع النمو وتقوية الطبقة الوسطى). ولكن بعضاً منها (يحتاج إلى عمل كونغرسي).

كان الأفضل الحديث عن تمكين العمال من الحصول على أجور كريمة، لأن الطبقة الوسطى الحقيقية- أشخاص مثل المزارعين وأصحاب المتاجر، وهم أصحاب مهن حرة ولكن لايعمل لهم أناس كثيرون آخرون – قد تمت تصفيتها عملياً بحلول الصناعة الزراعية والمؤسسات السلسلية.

يستخدم مصطلح (الطبقة الوسطى) عموماً بطريقة لتمييز العمال الأفضل أجراً عن الأدنى أجراً والعاطلين عن العمل. وكان له في الكثير من الأحيان معنى إضافي عنصري.

وجه جديد للجوهر نفسه

لا شيء أكثر يمكن أو ينبغي توقعه من شخصية سياسية كانت سيرتها مطمورة في ميدان تهيمن وتسيطر عليه الطبقة الرأسمالية الحاكمة.

صحيح أن انتخاب أوباما كسر طراز السياسة الأمريكية بمعنى من المعاني المهمة جداً. فقد انتهى العصر الذي كان فيه الرجال البيض فقط، والأفضل الأغنياء، مرشحين ليكونوا رمز البلد ووجهه. وهذا التغيير في المظهر الخارجي للآلة السياسية كان ممكناً فقط بفضل نضال المظلومين داخل الولايات المتحدة لكسر قيودهم طوال أكثر من خمسة عقود بعد الحرب العالمية الثانية.

ودارت معارك ضخمة حول العالم أيضاً من أجل استقلال الشعوب المستعمرة وتقرير مصيرها. حلّت تصفية الاستعمار القبضة السياسية المباشرة للظالمين، وإن بقيت هيمنتهم الاقتصادية. إن معظم قادة دول العالم – ولكن ليس المصرفيون ورؤساء الشركات الذين يمسكون السلطة الاقتصادية – هم اليوم أناس ملونون، في مجاراة الأغلبية من سكان العالم.

ولكن يتضح أن لا شيء أساسياً قد تغير. أما لازمة أوباما عن البيزنس وتعاون العمال من أجل مستقبل مشرق، فالقصد منها مقاومة مطالب العمال المتزايدة بنقل الصراع إلى الشوارع، سواء للمطالبة بأجور أفضل أو لمقاومة تراجعات في عقود العمل أو تنظيم غير المنظمين.

تجنب أوباما القضية الكبيرة: عدم القدرة وعدم الرغبة الصريحة لدى أرباب العمل الرأسماليين بتوسيع التوظيف في هذا العصر من التقنية العالية. قال في خطابه إنه (يسأل) أصحاب العمل استخدام العاطلين عن العمل لفترة طويلة.

نعرف ماذا سيكون جوابهم.إنهم لا يقدرون على ذلك، مع أن الثري يزداد ثراء بمعدلات غير مسبوقة.

كان هناك الكثير مما يبهج قلوب صانعي الأرباح.

وعد أوباما بتخفيض الضرائب على البيزنس الذي (يحافظ على الأعمال هنا). وسبق أن حدث هذا. تتعاقد شركات مثل غاب وبينيتون على العمل مع شركات ملابس تدفع أدنى الأجور في أفقر البلدان، مثل بنغلادش وفييتنام. والحزبان يؤيدان تخفيض الضرائب.

التقنية العالية في أمريكا والصين

تعهد أوباما بدعم الحكومة لخلق المزيد من صناعة التقنية العالية، ذاكراً التنافس مع (الصين وأوربا). وهنا بعض الملاحظات.

لا تزال الحكومة الصينية تدين بنجاحها لثورتها الاشتراكية الكبيرة التي هزت العالم، وحولت بلداً فقيراً عموماً وزراعياً إلى أنموذج لتخطيط عالي التقنية، دون التسبب بأية بطالة! وفي الحقيقة، ارتفعت الأجور في الصين في العقد الماضي بين خمس إلى سبع مرات، وكان ذلك نتيجة حركة العمال الكفاحية جزئياً، وجزئياً نتيجة نقص العمالة.

أما في الولايات المتحدة وبلدان أخرى رأسمالية كلياً فقد ارتبطت التقنية العالية بشكل أساسي بخفض الأجور وفصل العمال، وكل ذلك لمصلحة الأرباح. وهنا تكمن أهمية ذكر هوبرت هوفر ل (فائض الإنتاج) في خطابه عن حال الاتحاد في عام 1930.

فائض الإنتاج ظاهرة الاقتصاد الرأسمالي، ولا نظام آخر. في الأزمنة القديمة كان يجري الاحتفال بالفوائض، أما اليوم فتؤدي إلى تسريحات وإغلاقات.

أما على صعيد السياسة الخارجية، فكان خطاب الرئيس تكراراً لمواقف سابقة مع تأكيده عدم رغبة الولايات المتحدة في خوض حروب جديدة. في المجمل لم يحمل خطاب الرئيس الأمريكي أي جديد، بل اكتفى بالعناوين العريضة دون الدخول في التفاصيل، كأن المقطع الخارجي جاء لرفع العتب عنه! (زياد الحافظ، عن أوباما وحال الاتحاد، الأخبار في 11 شباط 2014). لكنه أكد الانسحاب من أفغانستان. وفي الملفات الأخرى الخارجية كرر الرئيس الأمريكي المواقف السابقة على نحو سريع، فقد أكد دعم الولايات المتحدة للديمقراطية وكرر الموقف الأمريكي المعادي لسورية.

إن تواضع المقترحات الداخلية يتلازم مع التواضع في الطموحات الخارجية، وهذا ما يؤكد أن التراجع الأمريكي أصبح أمراً واقعاً في الوعي السياسي الأمريكي. والتراجع المستمر لأجيال قادمة قد يسبقه انهيار عام.

العدد 1107 - 22/5/2024