«نادي السفاري» والإعداد لاتفاقيات كامب ديفيد

كانت أولى عمليات (النادي) في زائير(الكونغو)، فحينما هدد الجنرال بومبا بالاستيلاء على إقليم (كاتنغا)، انزعجت شركات التعدين هناك إلى حد كبير وكذلك الرئيس (موبوتوسيسيسكو) فناشدوا (النادي) أن يمدهم بالعون، ولم يذهب طلبهم سدىً، فقد أُرسلت إلى زائير (الكونغو) قوات مصرية ومغربية محمولة بسلاح الجو الفرنسي مع عدم التصريح بالهوية الحقيقية لهذه القوات، إذ تم تسريب خبر مضلل لوسائل الإعلام يدعي أنها قوات فرنسية- بلجيكية. واستطاع (نادي السفاري) إنقاذ نظام (موبوتو) من السقوط حينئذ. (10).

وفي النزاع الصومالي-الإثيوبي حول إقليم (أوغادين) انتهز (نادي السفاري) هذه المشكلة، وأخبر أعضاؤه الرئيس الصومالي عندئذ (سياد بري) أنه لو تخلص من حلفائه السوفييت وخبرائهم العسكريين، فإنهم سيزودونه فوراً بالأسلحة والمعدات التي يحتاجها. وكان الشاه بالذات متحمساً، إذ كانت خطاباته الموجهة ل (سيادبري) مليئة بالتشجيع والوعود. وباعت مصر للصومال الأسلحة السوفييتية التي لم تعد بحاجة إليها، بما يعادل 75 مليون دولار، دفعتها السعودية. وبالفعل فقد قام (سياد بري) في حينه بطرد السوفييت وتخلى عن الشعارات الماركسية التي كانت تكتسي بها حكومته ومؤسسات النظام الصومالي، واستمر في مساعدته لحركة (تحرير أوغادين)، وتحول هذا الإقليم إلى مستنقع أو فخ محكم ل(سياد بري)، الذي اكتشف لاحقاً أنه كان مخدوعاً من أصدقائه الجدد في (نادي السفاري)، وفي مقدمتهم الشاه نفسه، الذي استدعى السفير الصومالي ثلاث مرات خلال شهر واحد، وأخبره أنه ينبغي على (سياد بري) أن ينسحب من (أوغادين). وقال: (لقد وصلتني ثلاث رسائل من الرئيس كارتر، فأنتم معشر الصوماليين تهددون بقلب موازين القوى في العالم. إذا انسحبتم من أوغادين، فإننا سنتخذ كل الإجراءات لتزويدكم بكل العون الذي ترغبونه، لكنه سيكون اقتصادياً وليس عسكرياً. فلتنسوا كل شيء عن أوغادين) (11).

وفي تعليقه على واقعة ونتائج استنجاد (سياد بري) بأعضاء (نادي السفاري)، يقول محمد حسنين هيكل:(إن ماحدث في الصومال قد أثبت لأعضاء النادي الحدود التي يمكنهم التحرك داخل نطاقها. فالشرطي الذي يقوم بواجبه له سلطة معينة داخل المنطقة التي يعمل فيها، لكن تحت إشراف مفتشي ومديري البوليس الذين يتمتعون بسلطات أكبر، وباستطاعتهم إصدار الأوامر إليه، وماعليه إلا أن يطيع.

ومن الجوانب المدهشة لهذا النادي أن كل أعضائه كانوا يتظاهرون بإخفاء نشاطهم عن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، إلا أنهم كلهم في واقع الأمر كانوا يقدمون تقارير موجزة لها عمايحدث. والأدهى من ذلك أن الجنرال ناصري (رئيس جهاز (السافاك) آنذاك)اعترف في مابعد أنه لم يكن يخبر الأمريكيين فحسب، بل كان يخبر الإسرائيليين أيضاً(12).

وقد صرح رئيس جهاز المخابرات في دولة خليجية، في خطاب ألقاه في حفل استقبال في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2002 بقوله: (إنه في عام ،1976 وبعد فضيحة ووترغيت، كان الكونغرس قيّد حركة المخابرات المركزية الأمريكية بقيود لاتطاق، فصارت غير مطلقة اليدين في تحريك الجواسيس والعملاء حول العالم، وفي دفع النقود لعملائها، وإعداد الملفات السرية ومتطلباتها، وفي كل شيء تقريباً، لهذا كونت الدول الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية تحالفاً يجمع إمكانيات أجهزة مخابراتها، حتى تساعد المخابرات المركزية الأمريكية في الحرب ضد الشيوعية، فكونوا ما أسموه (نادي السفاري)، الذي شاركت فيه كل من فرنسا ومصر والسعودية والمغرب وإيران، وكان له دور رائع في الحرب الباردة وتحقق النصر الأمريكي فيها) (13).

أما العملان الكبيران ل(نادي السفاري)، فقد تمثلا بالإعداد لاتفاقيات (كامب ديفيد) والانخراط في الحرب الأفغانية في أواخر سبعينيات القرن الماضي. ففي 31 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1977 توجه السادات لزيارة شاه إيران ليحدثه في فكرة السلام مع (إسرائيل)، وتوقعا أن أمريكا ستحب الظهور بوصفها راعية وحيدة للسلام -وكانا هلى حق في هذا التصور- لهذا اقتصرت الترتيبات على مصر وإيران والمغرب، وتم استبعاد الفرنسيين من مناقشة الأمر، ثم بدأ التنسيق مع الطرف الإسرائيلي، من خلال اتصالات الشاه بمناحم بيغن مباشرة، وقد جرى الاتفاق على تصوير الأمر بصورة مبادرة برلمانية حتى يمكن تسويقه جيداً في الغرب، فيشير السادات في خطاب أمام مجلس الشعب لاستعداده للذهاب إلى (الكنيست) الإسرائيلي نفسه، ويلتقط بيغن طرف الخيط من هنا، فيوجه دعوة للسادات لزيارة (الكنيست). وقد أعلن السادات مااتفق عليه يوم 9تشرين الثاني (نوفمبر) ،1977 ووصله خطاب الدعوة لزيارة (إسرائيل) يوم 15 تشرين الثاني (نوفمبر) (1977) كتاريخ للزيارة، فرد السادات عليه في اليوم التالي بقبول الدعوة، وحدثت الزيارة المعروفة(14).

هذه رواية، أما الرواية الثانية، فتقول:إنه يمكن (للنادي) أن يدعي لنفسه نصيباً في مسؤولية قيام الرئيس السادات بالمبادرة التي بدأها بزيارة القدس عام 1977.

وكانت أول رسالة باقتراح عقد اجتماع بين الطرفين أرسلها رابين عندما كان رئيساً لوزراء (إسرائيل) وحملها إلى الرئيس السادات، أحمد الدليمي مندوب المغرب في النادي. لذا فحينما ادعى إسحق رابين فيما بعد أن التغيير الكامل في العلاقات بين مصر و(إسرائيل) قد بدأ قبل وصول بيغن إلى الحكم، فإنه لم يقل سوى الصدق.

وفي مابعد ظهر أن الملك الحسن ملك المغرب كان هو الذي رتب في قصره أول لقاء مصري إسرائيلي مباشر.. إذ كان النادي يريد أن يفرغ من الصراع العربي- الإسرائيلي حتى يتحول بكل جهوده إلى إفريقيا ومكافحة الشيوعية فيها(15).

أما السادات فقد تعهد في الواقع بتنفيذ صلح منفرد بين مصر و(إسرائيل)، كما تعهد بالتعاون مع الولايات المتحدة لإخراج الاتحاد السوفييتي من كل إفريقيا وليس من المنطقة العربية وحدها (16).

أما العملية الكبرى الثانية ل(نادي السفاري) فقد تمت في جبال أفغانستان الوعرة، فبتمويل سعودي وطاقات بشرية مصرية وسعودية، ولدت ظاهرة (العرب الأفغان) بهدف حصار واستنزاف الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، ومازال المصريون يذكرون اليافطات الكبيرة التي نشرت بشكل مكثف بمباركة حكومية في شوارع القاهرة وعواصم الأقاليم والمحافظات المختلفة، داعية الشباب للسفر والجهاد في أفغانستان. كما طرحت في الدول العربية عشرات آلاف الكتب والأشرطة زهيدة الثمن أو المجانية، تحت عنوان (آيات الرحمن في جهاد الأفغان)، ووزعت المدارس والجامعات السعودية نسخاً منها على الطلبة، قبل أن يتبين للجميع أنها كانت (آيات الإخوان وعملاء الأمريكان) في (الجهاد) ضد السوفييت والتقدميين الأفغان، وقد جرّ هذا البلد الآسيوي المحدود الموارد إلى مستنقع الحرب الأهلية المدمرة وتحويله إلى حاضنة إقليمية ودولية للإرهاب السرطاني، الذي لم يخرج منه إلى اليوم، إضافة إلى انتشاره في معظم دول المنطقة، وأوربا وأمريكا ذاتها والعالم كله تقريباً(17).

ولكن قائمة أعمال (نادي السفاري) و(إنجازاته) التخريبية لم تقتصر على (الأنشطة) المشار إليها، بل شملت (كماعرف إلى الآن) محاولة انقلاب فاشلة على الرئيس الغيني أحمد سيكوتوري، الذي قاد حركة تحرير بلاده من الاستعمار الفرنسي، وأنهى نظام الإقطاع وانتهج خطاً تحررياً تقدمياً. وستتكشف مع الأيام كثيرمن أعمال هذا النادي المشينة.

طبعاً بسقوط نظام الشاه ومقتل السادات، وهما (بيدقان) مهمان في (نادي السفاري) تعرض هذا التحالف العميل لضربة قاصمة، وقد يكون النادي أغلق أو أفلس، لكن التعاون والتنسيق المخابراتي بين الدول والكيانات الحليفة والتابعة للولايات المتحدة الأمريكية لم يتوقف، ولن يتوقف، دفاعاً عن المصالح الاقتصادية والتوجهات السياسية والإيديولوجية المحافظة والرجعية، وتبادل الخطط والأفكار والمعلومات، الهادفة للهيمنة على مصائر الشعوب والنقاط الاستراتيجية في العالم، من خلال الشركات العملاقة المتعددة الجنسيات، والتوظيف القذر لمليارات النفط العربي في تنظيم الجماعات الإرهابية والتخريبية وتمويلها من جهة، وتحطيم كثير من البلدان السائرة في طريق التنمية الاجتماعية-الاقتصادية الموجهة والنهج السياسي المستقل وتمزيقها من جهة أخرى.

ونختتم بالقول:إنه إذا استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية في الماضي والحاضر أن تنشئ لكل مرحلة تاريخية -سياسية تجمعاً تابعاً من الدول الإقليمية أو التكتلات الاقتصادية أو الأحلاف العسكرية الأمنية بأسماء وشعارات مختلفة، فإن ذلك كله لم يحل دون قيام الشعوب بتحطيم هذه التكتلات والأحلاف، وإفشال المخططات والتدابير الاستخباراتية المعقدة، بصرف النظر عن شموليتها وحرفيتها ومستوياتها التقنية العالية، وعمق التنسيق والتعاون في مابين أجهزتها ومكوناتها وقواها، وأذرعها الأخطبوطية المتشابكة إقليمياً ودولياً.

الهوامش

(10) المصدر نفسه، ص ،151 وموقع (المنتدى العربي للدفاع والتسليح) (نادي السفاري).

(11) محمد حسنين هيكل، مدافع آية الله:قصة إيران والثورة، ص 152-153.

(12) المصدر نفسه، ص 154.

(13)نقلاً عن موقع (المنتدى العربي للدفاع والتسليح) (نادي السفاري).

(14)المصدر نفسه.

(15) محمد حسنين هيكل، مدافع آية الله:قصة إيران والثورة، ص ،154 ،155 وانظر كذلك: محمد حسنين هيكل، المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل:عواصف الحرب وعواصف السلام، الكتاب الثاني (القاهرة:دار الشروق، ط،1 1996) ص 279-286.

(16) انظر: محمد حسنين هيكل، المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل:عواصف الحرب وعواصف السلام، الكتاب الثاني (القاهرة:دار الشروق، ط،1 1996)، ص 283.

(17)ألكسندر إيغناتينكو، (الراديكالية الإسلامية كعامل فعال في الحرب الباردة)، آسيا الوسطى والقوقاز، العدد رقم 1 (13)، 2001 (باللغة الروسية).

العدد 1105 - 01/5/2024