إشكاليات الديمقراطية العربية

غدت الديمقراطية موضع إجماع في الخطاب السياسي العربي المعاصر دون تأسيس نظري مطابق، وقد فرضت نفسها هنا لإشكالية تثير أسئلة أكثر مما تقترح أجوبة، وتشرح المقدمات أكثر مما تعرض النتائج.

وأولى إشكالياتها هي إشكالية المفتاح والتاج، فالموقف الأيديولوجي يرى في الديمقراطية، مفتاحاً لحل مشكلات المجتمع العربي بمعجزة النقلة الفجائية، بلا مجهود ولا كلفة ولا زمن، من واقع التأخر إلى واقع التقدم.

فالديمقراطية تضطلع اليوم بالوظيفة التي اضطلعت بها فكرة الثورة، وفكرة الاشتراكية، وفكرة الوحدة، أو فكرة النهضة، الديمقراطية هي المطلق، هي الشرط السابق لكل شرط، هي الداء  لجميع الأدواء. وقبل أن تكون الديمقراطية مفتاحاً لجميع الأبواب، كأنها هي نفسها بحاجة إلى مفتاح، ولعل بابها لايفتح إلا بعد أن تكون الابواب الأخرى قد فتحت أو بالتوافق معها على الأقل.

فالديمقراطية قد تكون قاتلاً للديمقراطية، فهي معادلة جبرية، لاصيغة سحرية لا تفتح بأي (سمسم) ولا تنطوي على كنوز، هي أصلاً ضد منطق الكنز.

الديمقراطية لم تكن ثمرة برسم القطف، لكنها على الأقل بذرة برسم الزرع، السؤال: هل الديمقراطية هي مجرد صيغة للحكم، أم هي أيضاً ثقافة؟

تُصوَّر الديمقراطية من قبل أنصار مذهبها كأنها فاكهة من الجنة، مع أنها أشد ما تكون بحاجة إلى رعايتها كبذرة، الديمقراطية في الغرب هي تحصيل حاصل ولا تحتاج إلى أكثر من إجراءات، ولكن في المجتمع العربي فإن اختزالها إلى مجرد إجراءات من شأنه أن يقتل بذرتها، فالثقافة الديمقراطية ينبغي أن تكون في رأس جدول وظائف النخب العربية، فالديمقراطية نقيض الطغيان، ولكن دون ثقافة قد لا تكون حاملة معها إلا لسم الطغيان، وحصراً طغيان العدد.

والديمقراطية تعريفاً هي حكومة العدد الأكبر، أو بتعبير أدق الحكومة التي تمثل العدد الأكبر، ولكن هذا العدد الأكبر ليس مطلقاً، فالعدد الأكبر متغير دائماً، ومقولة من مقولات النسبية، فالغالبية في الديمقراطية مقولة أفقية لا عامودية، فما هو عامودي في المجتمع هو كل ما له صلة بالهوية، سواء تجلت بالدين، أو الطائفة، أو الإثنية، أو القبلية، أو الطبقية.

أما ما هو أفقي فذاك ما هو عابر لتلك الكيانات الثابتة والدائمة، وما يمكن أن يتمثل بمؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية أو النقابات إلخ.

ونظراً لضعف ثقافة الديمقراطية في المجتمع العربي، فكثيراً مايلحظ انزياح من المفهوم الأفقي للغالبية إلى المفهوم العامودي، ومسرح الصراع هو المجتمع نفسه لا مؤسسات السطح السياسي من برلمان وغيره: ديانة في مواجهة ديانة، طائفة في مواجهة طائفة، إثنية في مواجهة إثنية، والغالبية هي غالبية إسلامية أو مسيحية، سنية أو شيعية، عربية أو بربرية، والتمثيل هنا تمثيل طوائفي لا تمثيل حزبي، فالمقياس الأول للغالبية هو العدد الإحصائي لأبناء فئة بعينها، ولانتقال السلطة برأسها الرئاسي، وجذعها البرلماني من غالبية سابقة إلى غالبية لاحقة، فليس من سبيل إلى ذلك سوى الاقتتال، ومما يزيد منوخامة هذه الصورة أن الحكومات العامودية لا تواجه في الغالب من قبل معارضات من مواقع ديمقراطية فعلاً، فالمعارضات، شأنها شأن الحكومات التي تعارضها، تقف في الغالب على الأرضية الطائفية أو القبلية نفسها، لكن في خندق مضاد. والأقليات الحاكمة لا تُكره ولا تعارض لأنها حكومة أقلية بقدر ما تحارب لأنها حكومة طائفية بعينها، سواء كانت طائفة أكثرية أو أقلية، وبين نار الحكومات الفئوية والمعارضات الفئوية فإن الفرد الديمقراطي يقف حائراً، فوظيفة النخب العربية لا تكمن في ممارسة المعارضة بقدر ما تكمن أساساً في ممارسة التربية الديمقراطية، وإن ما يحتاجه العالم العربي ليس تغيير الحكومات، ولا سيما أن هذا التغيير بات عالي الكلفة بالعنف والعنف المضاد فضلاً عن دورانه على محور فارغ، بل (أخذ الوقت) لبذر الثقافة الديمقراطية من خلال فترة (هدنة) تعلق فيها شعارات إسقاط الأنظمة القائمة لصالح مطلب إصلاحات ديمقراطية متدرجة للانتقال من المفهوم العامودي إلى المفهوم الأفقي.

الديمقراطية عقد يلتزم جميع الأطراف بشروطه لقيام سريان مفعوله، ومن المنظور الطويل الأمد لثقافة الديمقراطية، فإن ما يحرص عليه الفرد الديمقراطي مطلب الاحترام لشروط العقد الذي لا وجود له أصلاً، بل مطلب تهيئة الشروط المادية والفكرية لقيام هذا العقد مستقيباً، بمعنى آخر لا يستطيع الفرد أن يقطف ثمرة الديمقراطية ناضجة من ثمرة وهمية، بل بدوره المرحلي أن يمهد التربة لبذر البذرة، فالديمقراطية ليست جنة موعودة والطريق إليها قد تكون مبلطة بنار جهنم، إذ ما دامت الديمقراطية ثقافة وليست مجرد آلية انتخابية، كان الموضع الأول هو في الرؤوس وليس في صناديق الاقتراع، وثقافة الديمقراطية لا تستقر في الرؤوس دون ثمن باهظ، والديمقراطية لا يمكن أن تكون نظاماً للحكم دون أن تكون نظاماً للمجتمع، مع أنها في التعريف هي نظام للدولة، وأنها جوهرنظام المجتمع المدني، معنى ذلك أنه لا وجود لديمقراطية سياسية بحتة، فهي بالأساس ظاهرة مجتمعية، والمجتمع هو في المقام الأول نسيج من العقليات، ولئن تكن الحرية الديمقراطية تنتهي لا محالة إلى صندوق الاقتراع، كان الصندوق الأول الذي تنطلق منه هو جمجمة الرأس، وإن لم يتضامن صندوق الرأس مع صندوق الاقتراع فإن الأخير لن يكون إلا معبراً إلى طغيان غالبية العدد. وهنا تتدخل ثانية جدلية الأفقي والعامودي، فعلى مستوى السطح السياسي وحده يصوت الأفراد كأفراد، أما في العمق الإثني أو الديني، أو القبلي أو الطائفي، فالتصويت يأخذ بالضرورة شكلاً جمعياً، بل قطعياً، وفي هذه الحال يكون صندوق الاقتراع مرادفاً لقبر الديمقراطية.

الديمقراطية إذاً غير قابلة للاختزال إلى محض آلية انتخابية، وهذه الآلية غير قابلة للاشتعال دون زيت، وزيت الآلية الانتخابية للديمقراطية هو ثقافي.

وبصراحة القول: إن الأنظمة العربية تقيم العثرات أمام الآلية الانتخابية. والمجتمعات العربية الراهنة تقيم العثرات أمام الثقافة الديمقراطية، والأنظمة لا تتحمل انتخاباً حراً، والمجتمعات العربية لا تتحمل رأياً حراً، فما دام أنصار الأصالة في الساحة العربية يرفضون فكرة التغريب باعتبار سواد الحركة الأصولية لا يخفي مجانبته للديمقراطية باعتبارها قيمة (غربية) والحضارة الغربية بأسرها مرفوضة، حتى لو استولى الأصوليون على السلطة بطريقة ديمقراطية، فإن أول عمل لهم سيكون هو إلغاء الديمقراطية نفسها بوصفها نظاماً مستورداً ودخيلاً.

ومع ذلك يثور سؤال: من أين نأخذ الديمقراطية؟ أمن بدايتها أم من نهايتها؟ الجواب لا يحتاج إلى تمحيص: فالديمقراطية تماماً كما في استيراد الأدوية، يجب أن تؤخذ في أكمل أشكال تطورها وأكثرها إنجازاً. ومع ذلك وفي نطاق هذا التشبيه، لا يجوز أن يغيب عنا أن الأجسام المريضة تتفاوت في قدرتها على تحمل الجرعات من الدواء الواحد، ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الديمقراطية هي في بعض وجوه مخاضها التاريخي مرتبطة بالتعلّم/، وقد عممت أوربا الغربية نفسها حق الانتخابات قبل أن تعمم حق التعلم.

فالواقع لا يمكن أن يتصور أن تنمو زهرة الديمقراطية وبالأحرى بذرتها في تربة الأمية أو حتى نصف الأمية، ومع التوسع والتعمق لقاع الأمية في المجتمعات العربية، فإن سفينة الديمقراطية لا تستطيع أن تنجز رحلتها إلى شاطئ الأمان، ولقد وجدنا الأصوليين يهددون بإغراق السفينة نفسها فور وصولهم إلى مرفأ السلطة (مصر مثالاً)، كما أنهم الأبرع في ركوب موجة الأمية في مجتمعات تخضع لغزو صحراوي وأصولي وتوظف فيها دولارات النفط لتمويل مكتبات (الثقافة الصفراء) ثقافة الشكل الديني. ثم إن الأصولي لا يطرح في الانتخابات برنامجاً، بل يدعو إلى التصويت على نص مقدس. وهذه حيلة سياسية أثبتت جدواها منذ رفع عمرو بن العاص المصاحف في يوم التحكيم.

والديمقراطية ليست شيئاً آخر في نهاية المطاف سوى تحرير الفرد من أسر الانتماء الاجتماعي، ففي الديمقراطية لا يصوت الفرد بوصفه منتمياً إلى إثنية أو طائفة أو عشيرة، بل بوصفه مواطناً فقط، وفي جميع الأحوال، فإن انعتاق الناخب والمرشح معاً من قيود الانتماء الجمعي غير قابل للانفكاك عن الثورة التعليمية التي حررت المجتمعات الغربية من آفة الامية، وأتاحت عن طريق ديمقراطية التعليم لعموم طبقاتها وأفرادها، ما لم تتحه المجتمعات الأخرى على تعدد انتماءاتها الحضارية، ومن هنا مأزق الديمقراطية في العالم العربي، فالثورة التعليمية لم تنجز فيه على الأقل نصف مهمتها، وهي لا تسير على كل حال في خط مواز للثورة الديمقراطية التي تجتاح جميع أقطاره بلا استثناء، ومع ذلك فحق الانتخاب يجب أن يتوسع، ويعمم طرداً مع تعميم التعليم محطة الوصول الأخيرة لترسيخ قيم الديمقراطية.

 

عن كتاب (في ثقافة الديمقراطية)،  جورج طرابيشي ـ  دار الطليعة ـ بيروت ـ 1998

العدد 1105 - 01/5/2024