إعادة الإعمار واستراتيجية التنمية الاقتصادية حتى 2025 (2من2)

التنمية المستقلة هي النموذج الوحيد الذي يستطيع تخليص الاقتصاد من بنيته الهشة وتشييد بنية قوية بقطاعاتها السلعية من زراعة وصناعة تحويلية عصرية وتشييد وقطاع معرفة وغيرها. يتطلب ذلك دولة مركزية قوية، تعتمد على مواردها الذاتية لا على مستثمرين أجانب، يكرسون التبعية ويبددون الموارد الاقتصادية ويفوتون إمكانية التنمية الاقتصادية. النظام الرأسمالي العالمي الأمريكي الأوربي الصهيوني، لا يسمح للدول النامية أن تصبح دولة رأسمالية عصرية، بل يفرض عليها (رأسمالية القرن التاسع عشر المتوحشة) تلك التي تشل قوى الإنتاج، وتلك التي تجعل الدول النامية (مزارع لها) فحسب، تقدم لها مواردها الطبيعية (خامات)، بأسعار تزيد قليلا عن كلفة استخراجها لا غير، وتفرض عليها سياسة أجور تبقي الأجور قرب حد الكفاف، تستولي على (أدمغتها) وعمالها المهرة عندما تحتاجها ومتى تشاء. وتجعلها سوقاً لتصريف بضائعها. يستبيح (المستثمرون) البلاد فهم فوق قوانينها. بدأ ذلك بعيد الثورة الصناعية ولم يتوقف حتى الآن. لا يريد العدو الغربي الاستعماري للعرب أن يطوروا القطاعات السلعية من زراعة وصناعة تحويلية وتشييد وقطاع المعرفة، بل أن يتحولوا لتكون السياحة عملهم الرئيسي، فيحولهم إلى مجرد خدم ونساءهم للترفيه عن السواح، كما نص كتاب (الشرق الأوسط الجديد). تحكم هذه (الطبقة الرأسمالية غير الوطنية) الوطن العربي. تضع هذه الطبقة معظم رساميلها خارج الوطن العربي تحت تصرف العدو الغربي، وقد وصلت إلى تريليونات اليورو، في حين يموت الملايين جوعاً في الوطن العربي ويصاب عشرات الملايين بمرض التقزم، بسبب الجوع الشديد في الفترة بين وجود الأطفال في الرحم حتى 5 سنوات!لا يمكن تحقيق التنمية المستقلة إلا باعتماد (النظام الاشتراكي العربي)، المبني على دراسة الواقع الموضوعي للوطن العربي وتطلعاته، مستفيداً من تجارب الدول الأخرى متفادياً أخطاءها. العدالة الاجتماعية ينبغي أن تكون العمود الفقري لاستراتيجية التنمية الاقتصادية. الكادحون من فلاحين وعمال وجنود وضباط ومثقفين وطنيين، هم الذين سيقاتلون حتى النصر لتحقيق الوحدة العربية وتحرير الوطن العربي سياسياً وثقافياً واقتصادياً.

بلغ عدد سكان القطر العربي السوري3.65ملايين نسمة عام 1953 وبلغت مساحة الأراضي الزراعية المزروعة قمحاً 1.31مليون هكتار، والمزروعة شعيراً 0.43مليون هكتار. (المصدر: المجموعة الإحصائية السورية عام 1955 صفحة 246 و12). أصبح عدد السكان بعد نصف قرن 17.98مليون عام 2003 أي 4.9 أضعاف.

ارتفعت حصة المساحة المزروعة قمحاً بنسبة 36.6% بأكثر من الثلث بقليل والشعير بنسبة 253%، أي بمعدل ضعفين ونصف فقط. كانت المساحة المزروعة نحو 53 مليون هكتار عام 1953 وأصبحت 4.66 مليون هكتار عام 2003 (راجع المجموعة الإحصائية لعام 2004). أي أنها ارتفعت بنسبة الثلث فقط! فكم يحتاج القطر من ملايين الهكتارات لاستصلاحها، ليوفر فرص عمل إضافية في القطاع الزراعي والأمن الغذائي لقرابة 35 مليوناً عام 2025؟ بلغ عدد سكان القطر العربي السوري 24 مليون نسمة في 1/1/2011 وفق سجلات الأحوال المدنية. وبلغ 14.4مليوناً عدد السكان الذين أعمارهم بين 15- 64 في منتصف عام 2011 وهؤلاء قادرون على العمل. كان يعمل منهم 5 ملايين عام 2011 داخل القطر وقرابة مليونين خارج القطر. دمرت حرب الاستنزاف الكثير من المنشآت الصناعية والمؤسسات والشركات والمرافق العامة والمدارس والمستشفيات والأحياء السكنية ومحطات توليد ونقل الكهرباء. وحصل نزوح داخلي وخارجي يقدر بعدة ملايين، وارتفع بسبب ذلك عدد العاطلين عن العمل إلى أكثر من 3 ملايين نسمة، فأصبح مجموع عدد العاطلين عن العمل أكثر من 10ملايين. تراجعت الموازنات الحكومية الاستثمارية بشكل كبير جداً، في حين كان ينبغي لها أن ترتفع كثيراً، لتعوض ما تم تدميره وتستدرك سلفاً إيجاد فرص عمل جديدة لما قد يحدث من استمرار للتدمير ونقل البعض منشآته خارج القطر، فتفاقمت البطالة بشكل منقطع النظير. كان الحديث في وسائل الإعلام وتصريحات العديد من المهتمين بالشأن الاقتصادي يتحدثون عن بطالة بين 8-10% وقد بنوا بياناتهم على أرقام المسجلين في وزارة العمل ممن يبحثون عن عمل. فقد الكثيرون الثقة بمكاتب تشغيل العاطلين عن العمل، لاقتناعهم بعدم جدواها اعتماداً على ما أنجزته على أرض الواقع. كانت هذه البيانات المضللة حول البطالة خداعاً للجمهور ولأصحاب القرار، كي لا يأخذوا على محمل الجد خطورة مشكلة البطالة، التي تفاقمت لأسباب بنيوية في السياسات الاقتصادية المتبعة. بلغ عدد العاطلين عن العمل في الوطن العربي أكثر من 100 مليون عام 2011 ومستوى الأجور منخفض جداً لغالبية المشتغلين، مما أجج الحراك الاجتماعي في أقطار عربية عديدة. هذا الحراك الذي لم يتبلور بعد بشكل ناضج على صيغة قوى اجتماعية وبرامج محددة وأحزاب فاعلة، مما أتاح للعدو الاستعماري الأمريكي الأوربي الصهيوني حرفه عن مساره وتوظيفه إلى حد كبير لصالحه في حروب تدميرية، كما حصل في ليبيا حيث تم تدمير 10 آلاف موقع بكلفة تقدر بأكثر من 500 مليار دولار، وحروب استنزاف كما يجري في كل من جمهورية مصر العربية والقطر العربي العراقي والقطر العربي السوري والقطر العربي اللبناني والحبل على الجرار.

يكرس العدو الاستعماري الغربي سياسات اقتصادية مدمرة للاقتصاد العربي في شتى الأقطار العربية بتوجيهات العديد من منظمات الأمم المتحدة التي تدور في فلكه، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، التي تقدمت (بالوصفات القاتلة) مثل برامج الإصلاح الاقتصادي والتثبيت الهيكلي. يحتاج النظام الرأسمالي إلى طبقة من الرأسماليين الوطنيين، فهل توجد في الوطن العربي (طبقة رأسمالية وطنية)؟. لم يسمح الاحتلال العثماني ولا الاستعمار الأوربي التقليدي سابقاً، ولا الاستعمار الحديث الأمريكي الأوربي الصهيوني بتشكل مثل هذه الطبقة في الدول النامية ومنها الوطن العربي، بل شكل (طبقة رأسمالية) غير وطنية ذيلية، تقنع بالفتات الذي يتركه لها، خاصة بعد أن أصبحت الشركات العملاقة عابرة القارات تسيطر على مفاصل كثيرة للاقتصاد العالمي سواء في بلدانها أو في دول العالم النامي. هنالك فقط أفراد رأسماليون وطنيون هنا وهناك لا غير، سواء في الوطن العربي أو في الدول النامية الأخرى.

 

** ستناول برنامج إعادة الإعمار في حلقات من قطاع التشييد والبناء الذي ينبغي أن يشيّد 3 ملايين مسكن جديد في 60 مدينة جديدة، والقطاع الزراعي الذي ينبغي أن يستصلح نحو 4 ملايين هكتار من أراضي زراعية وغابات وواحات نخيل ومراعٍ. وقطاع الصناعة التحويلية الذي ينبغي أن يوفر فرص عمل ل 5 ملايين مشتغل إلخ.

العدد 1105 - 01/5/2024