اليهودية والصهيونية والشركات المتعددة الجنسيات (2من3)

تنامي تأثير اليهود

بدأ نجم اليهود في الصعود مع بداية عصر الأنوار وصعود البرجوازية الأوربية، واشتركوا معها في تدمير النظام الإقطاعي القديم وفي صياغة وبناء النظام الرأسمالي الجديد، خاصة النظام المصرفي لما لهم في ذلك من خبرة تاريخية وسيولة مالية، يقول ماركس:

(إن أوربا المسيحية بمرورها من الإقطاعية إلى الرأسمالية تصبح يهودية بمعنى من المعاني)، لقد التقت الخبرة اليهودية الربوية مع العقلانية العلمانية البرجوازية، واتفقتا معاً على البحث عن الربح بأية طريقةٍ كانت! ولو على حساب الآخرين.

ساهم اليهود في تمويل الرحلات التجارية عبر البحار، وفي الحملات الاستعمارية التي تلتها للسيطرة على الطرق التجارية، واستفادوا كثيراً من انتشار اليهود في العالم ومن خبرتهم التاريخية في التجارة ومن تنظيماتهم وتنظيماتهم الموازية التي أشرت إليها أعلاه، والتي أخذت تنتشر مع انتشار الاستعمار القديم، كما ساهموا في تمويل المشاريع الصناعية للبرجوازية الصاعدة. هذا الصعود اليهودي أخرج اليهود من عزلتهم التي اعتادوها، وبدؤوا يتأثرون بالعلمانية الغربية وتياراتها الفكرية خاصةً التيار القومي والتيار الاشتراكي، توازى ذلك مع تمرد أعدادٍ متزايدةٍ منهم على الكهنوت اليهودي، وفرز هذان التياران اليهود طبقياً لأول مرة في تاريخهم، ففي حين تأثرت الطبقات الغنية والوسطى بالتيار الأول! وكان ذلك خاصةً في أوربا الغربية حيث كان عدد العمال والفقراء اليهود قليل، وهذا التيار عبرت عنه الصهيونية فيما بعد، بينما شد التيار الثاني أعداداً متزايدة من اليهود إلى الأحزاب والحركات اليسارية والنقابات العمالية، وكان ذلك في أوربا الشرقية وروسيا، حيث كان الوضع بالنسبة لملايين اليهود الفقراء مختلفاً عن وضع أقرانهم في أوربا الغربية، إذ لازمهم الاضطهاد والعزلة حتى ظهرت الحركات الديمقراطية الاشتراكية في منتصف القرن الـ19.

اعتبر ماركس أن حل إشكالية اليهود التاريخية تتمثل في إعادة اندماجهم في مجتمعاتهم، وذلك في دراسته الشهيرة التي سماها (القضية اليهودية) التي كتبها عام 1840 ويقول فيها:

(إن مشكلة تحرير اليهود لم يعد لها وجود كموضوع منفصل، وإن جميع الجهود يجب أن تهدف إلى تحرير المجتمع الأوربي ولاسيما في الغرب، من الرأسمالية، وما إن يطرح نير الاضطهاد الرأسمالي الثقيل، حتى يحصل جميع أفراد المجتمع، وبضمنهم اليهود على الحرية والمساواة).

وبدا يومئذ أن الإشكالية اليهودية في طريقها إلى الحل على الطريقة التي رآها ماركس، إذ بدأ اليهود في الاندماج في المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها ولكن بشكل طبقي، فدخل أغنياؤهم في أوساط نخب الطبقات البرجوازية ذات النفوذ المالي والسياسي في أوربا الغربية، بينما اتجهت طموحات الطبقة الوسطى منهم إلى المؤسسات الثقافية في الإعلام من صحافة ونشر وسينما وإلى مؤسسات البحث العلمي والجامعات، أما في أوربا الشرقية وروسيا فأخذوا يتجمعون في تنظيمات عمالية كنقابات عمال التعدين في بولونيا مثلاً، بل وشكلوا أحزاباً اشتراكية خاصة بهم كحزب البوند (حزب العمال اليهودي)، وحركة (بوالي صهيون)، إضافة إلى ذلك كان هناك حركات يهودية إصلاحية، كحركة (هاسكالاه) أي (التنوير) وهي حركة إصلاحية تحررية يهودية ظهرت في القرن 18 وكان على رأسها اليهودي الألماني مندلسن، وهي انعكاس لحركة التنوير الأوربية العلمانية، ودعت اليهود إلى الابتعاد عن التعصب الديني وإلى تمثل التراث الألماني والنضال من أجل الحصول على الحقوق السياسية المدنية لليهود في ألمانيا، كما حصلوا عليها في فرنسا بعد الثورة الفرنسية، وكان الاتجاه العام للحركة يشجع عملية الاندماج في المجتمع الأوربي، لكن تطور التيار القومي اليهودي في أوربا أفشل عملية الاندماج تلك، كما أن هذه العملية ذاتها فشلت في الدولة الاشتراكية الناشئة في روسيا، وكان هذان الفشلان مأسويين بالنسبة لليهود خاصةً، لأنه أدى إلى اقتلاعهم من مجتمعاتهم مرةً أخرى ورميهم في مجتمع جديد اضطروا فيه للقيام بدور يشابه ذلك الذي قامت به النازية ضدهم ولكن ضد الفلسطينيين هذه المرة! وليجدوا أنفسهم محاطين بأسوار من العداء والكره والحقد، أكثر مرارةً من الاضطهاد الذي كان يعيشون فيه في مجتمعاتهم الأم، وسنستعرض أسباب هذين الفشلين:

كان الزعماء الاشتراكيون يؤكدون رؤية ماركس، وهو أن الحل الوحيد الممكن للقضية اليهودية هو الاندماج الكامل مع الشعوب الأخرى، وكان لينين ومارتوف وتروتسكي كغيرهم من الزعماء الاشتراكيين يؤكدون هذه الرؤية، كانت الصهيونية يومئذ عاجزة عن جذب جماهير اليهود في أوربا الشرقية وروسيا، بل كان أعدى أعدائها هم الشغيلة اليهود الذين كانوا يعارضون بشدة فكرة الهجرة إلى فلسطين، مقتنعين أن سقوط القيصرية في روسيا من شأنه أن يحررهم من الاضطهاد، فلعبوا دوراً متميزاً في الحركة الثورية، ولكن عندما جاءت الثورة! ترك هذا الانتقال العنيف للمجتمع أثراً قاسياً على جزء كبير منهم، إذ أدى إلى تفككهم وتدمير أساليب معيشتهم، فقد كان بين يهود روسيا عدد كبير من صغار التجار وأصحاب الدكاكين وكثير من المتعيشين والمضاربين، وكان على الثورة أن تدخل تعديلاً أساسياً على طراز حياتهم، وكان الاشتراكيون يمنّون أنفسهم بتحويل اليهود إلى منتجين،عمالاً أو مزارعين، وهكذا وجد غالبية اليهود أنفسهم مستهدفين من النظام الجديد، صحيح أنه خلصهم من المذابح والاضطهاد! لكنه كان يريد أن ينتزع منهم الدور الذي اعتادوه وسطاء وتجاراً بدائيين، وبذل النظام جهوداً وأموالاً كثيرة لتحويل عقلية هؤلاء المتعيشين والتجار المتجولين لجعلهم ينسون أساليب وحيل التجار الصغار ويتعلموا بدلاً منها استخدام المحراث أو الآلة، لكن هذه الجهود أحرزت القليل من النجاح، فاليهود ببساطة لم يكونوا مهيئين لهذا الانقلاب في طراز حياتهم الذي اعتادوه منذ قرون، وبما أن مستوى تعليمهم كان أعلى من مستوى تعليم السكان الروس! فقد دخلوا في الأجهزة الحكومية وأصبحوا جزاءً هاماً من البيروقراطية التي بدأت تتشكل بعد الثورة في مؤسسات الحزب والدولة، كما اتجهوا إلى المؤسسة العلمية والجامعية ولعبوا دوراً متميزاً في الصحافة والسينما والمسرح. ولاشك أن النظرة المسبقة إليهم عند الشعب الروسي الأرثوذكسي المتدين، خاصةً الفلاحين الروس، ساهمت أيضاً في فشل جهود الدولة الهادفة إلى إعادة تأهيلهم ودمجهم في المجتمع، ومن الواضح أن البلاشفة كانوا متفائلين أكثر من اللازم في إمكانية حل القضية اليهودية، فلم يكن بإمكان سنوات قليلة من الثورة أن تمحو آثار قرون من التخلف والبؤس والفقر والتعصب، وهكذا بقيت القضية اليهودية دون حل! إذ بقي هذا اليهودي المحتكر والسمسار والمرابي والذي كان يطفو دائماً على أمواج التقلبات يجذب لنفسه النفور العميق من قبل الروس وباقي شعوب الاتحاد السوفيتي! وترك هذا الفشل اليهود عرضةً لنفوذ الصهيونية المتزايد التي أخذت تقنعهم تدريجياً بأن حل مشكلة اليهود هي في وجود وطن قومي يجمعهم.

ومن جهة أخرى فإن تطور التيار القومي في أوربا أثار في النصف الثاني من القرن 19 موجات متوحشة من الصراعات القومية في كل من ألمانيا وهنغاريا وبولونيا وروسيا، فتحْت القناع المتمدن للبرجوازية الأوربية تطورت بربرية النظام الرأسمالي وعبرت عن حقدها وكرهها لكل ما هو آخر بوحشيةٍ وقسوة، وكان من نتائج هذه الموجات مذابح تصفية عرقية كان اليهود أحد ضحاياها، وقد استفادت الصهيونية من هذه المذابح في إقناع اليهود بأنهم لن يحصلوا على أمنهم إلا في وطنهم الخاص أي في إسرائيل.

إن التعصب القومي الذي اجتاح أوربا في ذلك الوقت تجلى فيما بعد كأوضح ما يكون بالنازية ومثيلتها الصهيونية، وفي حين تكاتفت البرجوازية الأوربية والأمريكية للقضاء على النازية، فإنها تبنت الصهيونية وتحالفت معها، وكان التناقض في المصالح واتفاقها في الحالتين هو السبب، ففي حين أرادت النازية انتزاع المستعمرات من الدول الغربية! ساهمت الصهيونية في انتشار الاستعمار الغربي وتعزيزه.

 

الصهيونية

قامت الصهيونية رسمياً عام 1897 عندما عقد تيودور هرتزل مؤتمرها الأول في بازل في سويسرا، بدعم من أغنياء اليهود في أوربا الغربية، وأخذت اسمها بناءً على اقتراح من قبل الفيلسوف اليهودي النمساوي (ناثان نيرنبوم) عام ،1890 وأسس هذا المؤتمر منظمة الصهيونية العالمية (WZO) هي اختصار:Would Zaun Organization) ) لتي أعلنت في برنامجها الأول هدفها الأساسي وهو (إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين)، لكن بوادرها بدأت قبل ذلك، فمنذ أواسط القرن 19 دعا الحبران اليهوديان الأوربيان (جيهودا الكالي) و(زيفي هيرش كاليسشير) اليهود المؤمنين الذين ينتظرون منذ قرون قدوم المسيح المنقذ! دعاهم إلى أن يحضّروا أسس مجيئه بالذهاب إلى فلسطين، ذلك أن اليهود يؤمنون بأن الله سيسمح لهم ذات يوم بالعودة إلى أرض إسرائيل، وذلك عندما سيرسل لهم المسيح المنتظر (موسوعة العلوم الأمريكية/الإنكارتا)، وأخذت الصهيونية تنشر عن طريق أعوانها من اليهود الصهاينة آراء ترفض فكرة الاندماج في المجتمع الأوربي، أمثال اليهودي الألماني الاشتراكي (هيس)، وكان ذلك على خلفية الصراعات القومية ومجازر التصفية العرقية في أوربا.

أخذت الصهيونية تدريجياً خاصةً بعد الحرب العالمية الثانية ترث ما كان للمؤسسة الدينية اليهودية من نفوذ وسطوة عند اليهود، بل اعتبرت نفسها أنها استمرار للتنظيمات اليهودية منذ السبي البابلي أي منذ القرن السادس ق.م حتى تكتسب الشرعية الكافية لقيادة اليهود في العالم، ما أتاح لها فيما بعد أن تتواجد في كل مؤسسات النظام العالمي، وبذلك كانت الأقدر على رؤية الأحداث بشكلٍ أكثر وضوحاً وبالتالي على رسم سياسة تناسب أهدافها ضمن المصالح الدولية المتشابكة.

فالصهيونية إذن هي انعكاس التعصب القومي الذي عصف بأوربا في القرن19والتي وجدت أرضاً خصبة لها في التعصب اليهودي التاريخي من جهة، والعداء للسامية من جهة أخرى، يحثها ويدفعها الخوف من الشيوعية التي كانت أفكارها تنتشر بسرعة في صفوف عشرات الآلاف من جماهير اليهود المعدمين، يمولها ويدعمها أغنياء اليهود من الذين انتموا إلى النخب البرجوازية التي شاركت في قيادة المؤسسات السياسية والمالية في العالم الغربي، والذين استمر انتماؤهم للثقافة اليهودية مع انتمائهم إلى ثقافة بلدانهم وطبقتهم على أرضية الانتماء المزدوج الذي عاش عليه اليهود خلال تاريخهم! فكانت الصهيونية هي التنظيم الذي جمعهم ونسق جهودهم وأعمالهم في أوساط تلك النخب المتصارعة على النفوذ والثروة والسلطة والمستعمرات، فقامت بينهم بالدور الذي أجاده اليهود عبر تاريخهم، وهنا ليس كوسطاء اقتصاديين فقط! بل كوسطاء سياسيين أيضاً ينسقون ويضبطون التناقضات بين الاتجاهات المتعارضة ومعها، مستفيدين دائماً من تلك التناقضات التي تقوم على المصالح المتباينة.

العدد 1104 - 24/4/2024