الصهيونية العالمية.. طبيعتها الطبقية وأهدافها

إن تاريخ نشأة الصهيونية وتأسيس منظمتها العالمية، يلقيان ضوءاً كاشفاً على المصالح التي تعبر عنها، والتي كشفها فلاديمير لينين، ويظهر أن الطبيعة الطبقية لها هي أساس الدور الذي تلعبه.

فقد كان تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية عام 1897 أي في الظروف التي وصلت فيها الرأسمالية إلى مرحلتها الإمبريالية، وكان من مصلحة الدول الاستعمارية المتناقضة، انجلترا وفرنسا، وفيما بعد ألمانيا، إيجاد قاعدة ثابتة تستخدمها لحماية مصالحها الاستعمارية ومطامعها في السيطرة. كما أن التمركز المالي الضخم والتطور التكنيكي الهائل، الذي سببه التطور السريع للرأسمالية في هذه المرحلة، قد ولّد معه زيادة ضخمة في أعداد الطبقة العاملة بكل أشكالها، وفي تمركزها الخاص، وأن ذلك قد حمل معه اشتداد المعارك الطبقية، التي أخذت تزداد فيها وتتقوى وحدة الطبقة العاملة، ضد الطبقة الرأسمالية الاحتكارية، مما أخاف الإمبريالية وجعلها تفتش بإلحاح، لإيجاد واستخدام كل قوة تعمل لمصلحتها ولتخريب وحدة الطبقة العاملة وضربها. ومن هذه المصلحة الموضوعية للدول الامبريالية الكبرى، ومن الطبيعة الطبقية الواضحة، كانت ظاهرة الصهيونية، ومنظمتها العالمية. وبين الأسباب الهامة لتشكيل المنظمة الصهيونية العالمية، إعادة وحدة اليهود، ومنع خروجهم من تحت سيطرة قادة الأسباط اليهود.

لقد تحققت ولادة المنظمة الصهيونية العالمية بتأثير العوامل المذكورة، ولذلك فهي مرتبطة كلياً بالإمبريالية ومصالحها وأهدافها، إضافة إلى أنها تشكلت مباشرة تحت قيادة كبار الرأسماليين اليهود، الذين، بدفاعهم عن مصالحهم الطبقية، إنما يدافعون عن الرأسمالية.

لقد ركز مفكرو الصهيونية على استخدام الدين اليهودي، وعلى التوفيق بين اليهودية والصهيونية، ولم يحصروا المنطلقات الإيديولوجية لحركتهم بالدين فقط، فوضعوا مجموعة متنوعة أخرى من المبررات للتأثير في اليهود واجتذابهم إلى محجر قوي جديد، بعد أن أخذوا يخرجون من المحجر السابق (الأسباط اليهودية)، مثل وجود (الأمة اليهودية العالمية) وتفوقها و(وحدة اليهود الثقافية) و(نمط تفكيرهم الخاص).. وغيرها من المزاعم التي أعدّت بعناية في سبيل إنجاح نشاطهم الفكري والعملي الصهيوني، وجمع يهود العالم حوله. ولكن الواقع والعلم يدحضان مثل هذه الادعاءات.

ولم يكتفِ الصهاينة بالذرائع الكثيرة لإثبات أنهم (أمة واحدة)، بل ادعوا أن (الأمة اليهودية) موجودة نتيجة وجود العدو (اللاسامية)، وحسب منطق هرتزل فإن (الأمة اليهودية) تزول عندما تزول اللاسامية، وبما أن اللاسامية موجودة لدى كل الشعوب التي يعيش بينها اليهود، فإن القول بأزلية اللاسامية، أي الزعم بكره جميع الشعوب وعدائها لليهود، أصبح أحد المنطلقات الأساسية لفكر الصهيونية.

إن هذه الإيديولوجية الصهيونية، التي تنطلق من (العرقية ونقاوة الجنس اليهودي) و(شعب الله المختار) و(الأمة اليهودية العالمية المتميزة) وتزرع فكرة (أزلية اللاسامية)، قد أنشأتها البرجوازية اليهودية كما سبق أن تبين، ارتباطاً بالظروف التاريخية، وبالأسباب والعوامل الاجتماعية المذكورة لولادتها، وأنها اسست حركتها على هذه المنطلقات الإيديولوجية، لكي تستطيع القيام بدورها مخرباً للحركة العمالية وحركات التحرر، عن طريق العمل لعزل اليهود عن هذه الحركة حيثما وجدوا، وجعلهم من خلال حركتها عامل شقاق وتقسيم، واستخدامهم وفق مصالحها. وبوصف البرجوازية اليهودية الكبرى، جزءاً من برجوازية كل بلد تكون فيه، وكذلك على النطاق العالمي، فإن العمل على مقتضيات مصالحها الاحتكارية، هو دفاع عن مصالح الإمبريالية بصورة عامة، فهي بذلك، وباندماج الاحتكارات الصهيونية بالاحتكارات في الدول الامبريالية، وخاصةً في الولايات المتحدة الأمريكية، تشكل جزءاً هاماً وميداناً أساسياً من أجزاء وميادين النشاط والتآمر الإمبريالي، وهي أيضاً إحدى الأدوات الرئيسية في أجهزة الإمبريالية ضد الحركة الثورية العالمية بكل فصائلها.

وبالارتباط مع ضرورة وجود (الدولة اليهودية) بالنسبة للصهيونية، من أجل تجسيد (الأمة اليهودية العالمية) في مركز (دولة)، بذريعة أن (القضية اليهودية لا يمكن حلها في بلدان المنفى) كما يزعم الصهاينة، ولأن وجود الدولة مسألة ضرورية بالنسبة لمخططات الصهيونية لكي تنجح في استقطاب يهود العالم، والحصول على ولائهم، و(صهينتهم) وعزلهم عن غيرهم من الشعوب، تجلى الاندماج الإمبريالي الصهيوني بوضوح خاص في اختيار المكان (الملائم) لإقامة هذه الدولة، فقد كان ذلك خاضعاً للصراع بين فئات الزعماء الصهاينة الذين كانوا يمثلون مصالح الإمبرياليين الإنجليز والفرنسيين والألمان، تبعاً لوجودهم وارتباطاتهم المصلحية الاحتكارية، وقد كان انتصار فئة وايزمن الموالي للإنجليز ناجماً عن مصلحة قديمة واهتمام خاص لفئة من الأوساط الحاكمة للامبريالية الإنجليزية في فلسطين، وعن التقاء ذلك مع رغبة الصهاينة في إقامة دولتهم في (أرض الميعاد) فلسطين، بحيث تساعد جاذبيتها الدينية الرمزية على اجتذاب اليهود وتحقيق صهينتهم حيثما كانوا، خصوصاً أن احتدام الصراع الطبقي، والسير العاصف الذي كان يجري للحركات الثورية في أوربا الشرقية وفي روسيا، قد جرف في أوائل القرن العشرين أوساطاً عمالية وجماهير واسعة من اليهود إلى صفوف هذه الحركة، مما جعل الصهاينة بحاجة أكثر إلى تأسيس دولتهم في فلسطين، لكي ينجحوا أكثر في نشاطهم الواسع بين اليهود، بالاعتماد على عامل الدين المرتبط بأرض هذا المكان..

إن رعب الطبقة البرجوازية وقواها الرجعية في دول أوربا وفي روسيا، من النهوض الثوري العارم في أوساط العمال في أوائل القرن العشرين، قد دفع هذه القوى الرجعية لاستخدام كل الوسائل التي تفعل في تحويل هذا الصراع الاجتماعي ضد نظامها، إلى خلافات وصدامات بين الجماهير العمالية والشعبية ذاتها، فعولت على استخدام التعصب القومي والعرقي، التي كان من بينها الاضطهادات والمذابح اليهودية. وكان ذلك يلتقي مع الصهيونية ويخدم أهدافها ومنطلقاتها وأفكارها، التي تصف كل من ليسوا يهوداً بـ (اللاسامية)، كما يساعدهم أيضاً على تهجير أكثر ما يمكن من اليهود، وعلى التمسك بضرورة (الدولة اليهودية) والهجرة إليها.

وإن المخططات التآمرية المشتركة للصهيونية والاستعمار القائمة على التلاحم المصلحي في النهب والسيطرة، وعلى العداء المقيت للاشتراكية ولكل فكر تقدمي وقواه الثورية، هي التي كانت في أساس الاغتصاب الصهيوني لفلسطين، وإقامة دولة إسرائيل العنصرية، على حساب اضطهاد الشعب العربي الفلسطيني وتشريده من أرضه ووطنه، ويبرز تأكيد المصالح الصهيونية الإمبريالية المشتركة التي تخدمها إسرائيل أكثر فأكثر، مرتبط مع الدور الذي تقوم به دولة الصهاينة في المنطقة العربية، وتقوية الحركة الصهيونية المخربة، وكل أشكال الإرهاب الموالي لها شكلاً وضمناً في كثير من دول العالم لخدمة الإمبريالية.

لقد كان لوجودها في هذه المنطقة بالذات، اأهمية كبرى للمصالح الإمبريالية، فهي على مقربة من قناة السويس، والخامات، وعلى منطقة عائمة على البترول والغاز، وتشمل رقعة جغرافية واسعة تقطنها شعوب يجمعها كيان الأمة، فاستمرار السيطرة الامبريالية على هذه المنطقة، وحماية نهبها اللصوصي لثرواتها الكبرى، يتطلب إيجاد قاعدة ثابتة للاستعمار يستخدمها لضرب حركة الشعوب العربية التحررية الصاعدة، من خلال ضمان بقاء أنظمة رجعية تسند هذا الكيان. وبالفعل، فإن إسرائيل، إضافة إلى ما قامت به من اضطهاد وتنكيل بالشعب الفلسطيني، فإنها تقوم بأكثر من دور كلب الحراسة لمصالح الاستعمار، فهي بوصفها تجسد مصالح التروست الصهيوني الوثيق الارتباط والاندماج مع الإمبريالية والأمريكية بنوع خاص، تقوم أيضاً بدور الشريك في الاستفادة من الحفاظ على المصالح الاستعمارية والنهب الإمبريالي، وفي إضعاف النهوض التحرري للشعوب العربية وضربه.

العدد 1105 - 01/5/2024