استنهاض العصبيات: أزمة قوى ومجتمع وثقافة

من مقتضيات هذا الحديث، المآلات التي آل إليها الحراك العربي الذي أعلن أنه ضد الاستبداد، ومن أجل الكرامة والحرية والديمقراطية. وفي رصد هذه المآلات يظهر الخطر الذي يحيق بالحراك فينسف ما ادعاه، وأصبح الخطر واضحاً على مكتسبات الحداثة، وعلى القوى التقدمية والمجتمع والثقافة.

تعتبر المراجعة ومحاولة القراءة على ضوء الأفكار والأحداث والرؤى المتجددة، من الضرورات للعمل الفكري، والقراءة دليل حيوية، ويجب ألا تكون باتجاه واحد فتحمل ما لا تحتمله، بسبب قصور المنهجية التي يجب أن تستضيء بالتاريخ والواقع. فقد بدت خيبة مشاريع حداثية في الساحة العربية، وتمت قراءتها بأشكال كثيرة وعلى ضوء أحداث ومناهج متعددة، وانخرط في ذلك محللون من اتجاهات فكرية متعددة. وكانت القراءات تسائل الأحداث والواقع عما جرى للأحلام والمشاريع، ماذا جرى للاشتراكية؟ ماذا جرى للوحدة العربية؟ ماذا جرى للتقدم؟ ماذا جرى للتحرر… إلخ؟

الأسئلة تفضي إلى التحليلات، ولا تفقد مشروعيتها ولا أهمية إثارتها، ومشروعية الأسئلة والتحليل مبنية على المعلن من مشاريع القوى، ومما وعد الناس به أنفسهم عبر الأيام وطيلة القرن العشرين، خاصة عندما بدا أن القوى والشخصيات المناضلة من أجل وضع أفضل للعرب، خاصة في البلدان الواعدة التي كان حراك النهضة العربية فيها واضحاً. ومن هذه البلدان مناطق المشرق العربي،  بلاد الشام والعراق.

كان النضال ضد العثمانيين، واستعداد شخصيات باسقة في حينه لتقديم التضحيات في سبيل التنوير وتحرير بلدانها وشعوبها من المعاناة إلى الحد الذي دفع بعضهم حياته، دليلاً لا يخطئ على طموحات المجتمع العربي وتوجه أفكاره ومشاريعه.

فما إن جلا المستعمر الأجنبي، واكتسبت القوى المناهضة له ثقتها بنفسها وثقة الشعب بها، وبدأت مراحل من التفكير بمشاريع تدغدغ أحلام الشعوب بالتقدم والخروج من المآزق، حتى انخرط الناس في حراك جديد بقيادة القوى التي أعلنت عن نفسها وعن مسؤوليتها المستقبلية وبرامجها لإنقاذ البلدان، وورثت المشروع الوطني، بدماء جديدة. ومن جديد صدق الناس وانساقوا وراءها.

تمخض الواقع المشار إليه، والذي يحتاج إلى المزيد من التحليل لبنية القوى الجديدة عن أزمة لا يكتفى بالإشارة العابرة إليها. إنها أولاً أزمة القوى التي تعهدت قيادة النضال الوطني لبناء المستقبل، بعد إنجاز مشروع التحرر من الاستعمار. وهذه القوى ذات جذور ضاربة في عمق المجتمعات ولعقود عدة قريبة من القرن. فقد أعلن عن تنظيمات ماركسية (أحزاب شيوعية) في مصر وبلاد الشام والعراق منذ ما يزيد على تسعة عقود، وظهرت التنظيمات القومية وإرهاصاتها قبيل الحرب العالمية الثانية، بقيادة مثقفين قوميين معروفين، وهذه تنظيمات متعددة، تضاف إلى قوى ليبرالية أو إسلامية رفعت شعار التحرر والتقدم.

لقد وعدتنا هذه القوى بالتحرر من الهيمنة الغربية (الخلاص من التبعية) بقيادتها، ووعدتنا بالوحدة العربية، وبالاشتراكية، كما وعدتنا ببناء اقتصادات قوية تقوم على مقدرات واعدة، ووعدتنا بالقضاء على الرجعية، مثلما وعدتنا ببناء الإنسان العربي الجديد والحرية، وزاد بعضها بأن أوصل الأحلام إلى أبعاد أممية ومشاركة قوى التقدم في بناء عالم يقود إلى السلم وعلى أسس جديدة.

وقبل سؤال هذه القوى عما أرى أن لا إجابة عندها عنه، أسألها: هل قامت بمساءلة نفسها عن كشف حساب عن تاريخها النضالي ووعودها (تحققت، لم تتحقق)، عن أحلامها ومشروعية الاستمرار على الوتيرة ذاتها من العمل؟ إذا كانت قد قدمت نقداً ذاتياً (وهذا يذكرني بواقعها المرير والكاريكاتوري كما صوّره مسلسل الخربة)، ما نتائج هذا النقد؟ وإذا كانت لم تفعل، ماذا تنتظر؟ وإذا كانت لا تجرؤ فأين تجد مبرر وجودها؟ وإذا كانت تخاف على الأوطان أن لا تجد من يرعاها فتصبح يتيمة، فهذه قد تيتمت في ظل رعايتها.

تذكروا وتدبروا ما كان يعلن من أننا سنسحق الاستعمار والرجعية، وسنقضي على الطائفية والمذهبية والعشائرية والأقوامية، وكل ما يعرقل بناء الأمة والمستقبل، أو يعيق القوى (التقدمية) التي رهنت البلاد والعباد تحت سلطتها، من ان تحقق مشروعها الموعود في بناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد.

أنا لست سائلاً عن الاشتراكية ومصيرها، ولا عن الوحدة العربية، ولا عن الأحلام والشعارات التي جاوزت كل الحدود، مع أن من حقنا أن نسأل، باعتبار ذلك وعداً دفعنا للانخراط في هذه القوى وتأييدها والحشد وراءها واستثمار مقدرات البلاد والعباد وجهودها في مشاريعها. فصنعت ولم تصنع، ولا يجوز تجريدها من كل فعل إيجابي. لكن سؤالي الذي يجد مبرراته في الأحداث الراهنة: أين المشروع المجتمعي، بناء مجتمع التقدم؟ لقد وعدنا بالقضاء على كل الرجعيات، الدينية والاجتماعية الاقتصادية، ووعدنا بالقضاء على أذناب الاستعمار، وبالخلاص من المذهبية والطائفية والقبلية والعشائرية، وكل الفئويات والوشائجيات، أو العصبيات القاتلة، المعيقة لمشروع التقدم. كان الحلم بناء مجتمع مدني يقوم على أعقاب، أو بديلاً من المجتمع الأهلي وقواه المتخلفة، وحصونه المتمثلة بالمكونات الموروثة ووجوهها السلبية، دون المساس بدينامية التجدد وفاعلية التقدم إذا وجدت مرتكزاتها في التراث.

ما لا يجب إغفاله، هو أن الكيانات الأهلية (عشائر، مذاهب، طوائف…) موجودة في بلادنا قبل الاستعمار الحديث، لكن هذا الاستعمار عمل على استغلال هذه المكونات (العصبيات) فجعلها تتناحر، وساعد بعضها على بعضها، فزال منها ما زال وبقي ما بقي تحت وصايته، وقد تعمق إحساس هذه الكيانات بوجودها واستغلالها وقوتها على مجابهة الآخرين، وهذه المشاعر والقدرات، لم تعمل الدول الوطنية التقدمية على محوها أو إضعافها، بل عملت على استثمارها في كثير من الأحيان.

في البلاد التي شهدت حراكاً تقدمياً وأخذت على عاتقها تحقيق وعود كثيرة، وهي تشهد صراعاً مريراً وصداماً قاتلاً، تستنهض فيه كل المكونات التي أعلنت أن مشروع التقدم والمستقبل المشرق رهن بالخلاص منها ومن ثقافتها وعلاقاتها، فإذا بنا نجد أن قوى الخراب والدمار والرجعية تستنهض جذورها وبقاياها، وإذا هذه البقايا موجودة في أعماقنا وكياناتنا تحركنا (رجعيين وتقدميين)، فيحدث الالتفاف حول صيحة وجدت للتسامي ((الله أكبر))، مستقطبة قوى الشر المضادة التي تركن إلى قيم السواد والإرهاب، ويبذها أو يقلدها المشروع التقدمي في استنهاض مكونات تنتمي إلى طينتها، وهي قوى عمل على إزاحتها، بل يرتكز وجوده على إزاحتها باعتبارها قوى العماء والتخلف (عشائر، قبائل، طوائف، إثنيات) كي تقابل مثيلاتها، ويكون انتصار التقدم على الرجعية بالرجعية!

كيف نتخيل أن ينتصر التقدم بالقوى التي لا يصح التقدم دون القضاء عليها، أو على علاقاتها، والسيّئ في ذلك أن المشروع الذي نهض على وعد القضاء عليها هو الذي يستنهضها لإنقاذه أو إنقاذ بلاده التي حكمها ويحكمها؟!

لا يصح أن نجرد بعض هذه القوى من وطنيتها، فالعشائر والقوميات وبعض مكونات المشروع الإيماني، لبعضها أدوار وطنية مشهودة، مع أن المشروع التقدمي أبلسها، واليوم يجري استجداء بعضها للوقوف ضد مشاريع بعضها الآخر ممن ارتبط بالخارج وجعل العنف وسيلته، وهي خطوات مقلقة. والإشارة إلى تمايز هذه الأبعاض تحدده مشاريعها، فمن ارتضى الارتباط بالأجنبي ومشاريعه، أو لجأ إلى العنف ضد مكونات وطنية مشاركة، ليس وطنياً، ومن يقاوم هذه المشاريع صادقاً ودفاعاً عن وطنه لا عن مصالح فئوية ضيقة، لا بد من الإقرار بدوره الوطني، مع الاحتفاظ بالإشارة إلى أن هذه القوى لا تخرج إلى عالم التقدم والحداثة حتى لو خرجت إلى مقارعة الأعداء أو المتورطين، لأن مشاريعها فئوية تفتيتية في النهاية. إنها أزمة المجتمع الذي كان مأمولاً تغيره فلم يتغير. كنا نأمل العبور إلى المجتمع المدني كما أشرت، مجتمع الحداثة والمكونات النوعية، حيث يلتقي الناس لا على أصولهم العرقية أو عقائدهم وعصبياتهم، بل وبدعم من ثقافتهم الجديدة، على اهتماماتهم ومصالحهم، فنخلص من العشائر والطوائف المتصلبة، ليكون لدينا أحزاب ونقابات وتجمعات علمية وإعلامية واقتصادية غير منخورة بالفئويات والعصبيات القاتلة.

إذن فالوعد بالمجتمع الجديد لم يتحقق، وأبرز المسؤوليات على عاتق من أخذ على عاتقه تغيير هذه الأوضاع، وسيطر على مقدرات البلاد، وطالب الشعب بالسير وراءه.

ثبت أن الطلاء البراق خادع، مثل ذلك الذي أخفى كل العصبيات القاتلة مما لا نستطيع دحضه بعد أن وعدنا بالخلاص منه في مجتمعاتنا، وقد أعادت إنتاجه الكثير من المناهج والممارسات السلطوية في مشرقنا العربي، بل على امتداد العروبة، وهذا مؤشر فشل للمشاريع التقدمية، أي لنا جميعاً، بأحزابنا ونقاباتنا وجمعياتنا وتكويناتنا الثقافية وإعلامنا وجامعاتنا.

الأزمة إذاً، أزمة مجتمع في وعيه وطبقاته وفئاته، مثلما هي أزمة ثقافة لم تستطع الخلاص من الارتهانات المرتبطة بقوى امبريالية، إذ لا يمكن فصل قوى الارتهان لأفكار سحرية غيبية عن قوى الاستغلال العالمي.

كان مأمولاً أن يتخلص المجتمع من حالة البداوة وثقافتها الفاعلة، عندما كان شكل التطورات واتجاهها إلى وطنية جامعة لا تشتتها قبلية ولا عشائرية، أي بالخروج من ثقافة البداوة وتكويناتها، إلى الحداثة وعالمها، عالم التمدن الذي تمكنت المجتمعات القوية من العبور إليه، وغيرها يتوالى. لقد أنشأنا المدارس والجامعات والمعاهد في الاختصاصات الحديثة، ورفدت بالكادر المؤدلج والممسوك جيداً، وأنفقت على مشاريع التعليم والتربية والتثقيف والإعداد ومحو الأمية مئات مليارات الدولارات المقتطعة من قوت الشعب أملاً في مردود ذي قيمة أرفع، وكان لدينا في كل بلد وزارات وهيئات معنية بكل شأن من هذه الشؤون مهما بدا صغيراً، وعدد الوحدات التابعة لها كالمدارس والجامعات هائلاً، دون أن نستثني الشؤون الدينية التي ترعاها وزارة خاصة، وكانت كلها موجهة بالعقل التقدمي الاشتراكي لتربية المواطن الجديد، وكان لدينا اتحادات ونقابات بعضها للثقافة، وكلها تأخذ أمر تربية الوعي على عاتقها لجعله حداثياً.

ثم بعد ذلك يتخرج في هذه المشاريع من يحمل السواطير والسيوف، فيقطع رؤوس إخوته ومواطنيه وأطرافهم منخرطاً في منظمات إرهابية. وهذه من الكبائر التي على القوى التقدمية تقديم الحساب عنها، وعدم التهرب من المسؤولية أو السكوت عليها.

إذا لم يحصل ذلك، فمن يتحمل المسؤولية فيما أوضحناه من جوانب؟ لقد تحدثنا عن المؤامرات ودور القوى المعادية، الامبريالية والرجعية، وكان كل ذلك مأخوذاً في الاعتبار ومعروفاً للقوى (التقدمية) عند إعداد مشاريعها الفكرية والسياسية، وقد أزاحت غيرها من القوى الرجعية. وبموجب ما أعلنته البرامج (التقدمية)، فإن القوى الجديدة تتحمل المسؤولية دون غيرها، لأنها أعلنت عزمها وأكدت للشعوب أنها ستقضي على كل ما يعيق التقدم وبناء الأوطان على أسس صحيحة. وإذا كنا لا نستطيع محاسبتها على عدم القدرة على مواجهة الإمبريالية ذات الطاقات الهائلة، فلا أقل من أن نحاسبها على  بناء مواطنيها، إذ لا يصح بعد كل هذه العقود الطويلة من إعلان مسؤوليتها عن بنائهم، أي بناء مجتمع التقدم والاشتراكية، أن تعلن استقالتها من ذلك. وإذا كنا وجدناها تتخلى عن بعض شعاراتها، فإنها لم تعلن تخليها أو اعتذارها عن سياساتها الفاشلة، ولم تقدم حساباً عن نجاحها وفشلها لشعوبها، مع أن كل ذلك واضح، إلا إذا اعتبرنا ما ينشر في الإعلام، وكثيره لا يشعر بالطمأنينة.

بالتالي لا بد من الإجابة على السؤال: كيف خسرنا المعركة مع الرجعية (وهنا لا أقصد المعركة العسكرية)، فأعدنا الاعتبار لها، مطالبينها بالاستنفار لإنقاذنا، بحيث نرى مؤتمرات العشائر، وما يصدر عنها من تطمينات بأنها ستفعل وستفعل، مما قصرت عن فعله القوى (التقدمية). إنها خيبة هذه القوى في القضاء على الإرهاب، بمعنى تحصين المجتمع ضده، بثقافة نافية لثقافته وعدم تمكينه من إيجاد الأنصار والبيئات الحاضنة، راعية العصبيات.لكي ننزع عن وطنيتنا أية شبهة، وعن تقدميتنا أية لوثة، كان علينا أن نثبت أننا ضد الطائفية والعشائرية، ونستمر في ذلك. واليوم لكي نثبت أننا وطنيون وتقدميون، وأوطاننا كذلك، علينا أن نستنجد بالعشائر والطوائف، لهذا الهدف. هل يعقل ذلك؟! أين ثقافة التقدم؟!

العدد 1105 - 01/5/2024