كتب تنتظر يوم النشور

للكتب طبائع البشر، فمنها الجاد الملتزم، ومنها المستهتر اللامبالي، ومنها الجميل الحضور والخفيف الظل، ومنها المتجهم والعابس، منها المشهور الذائع الصيت ومنها المتواري عن الأضواء، منها الاجتماعي الذي يختلط بجميع الناس ومنها الفوقي المتعجرف الذي يختار أصدقاءه بعناية، وفي النهاية بعضها ارتقى إلى مرتبة الخالدين، بينما ابتلع عالم النسيان البقية لعدة أسباب، منها رداءة نوعيتها أو عدم الاستمرار بطباعتها لتتعرف عليها الأجيال كافة، وهذه الأخيرة هي الأكثر تعرضاً للظلم بين جميع الكتب .

لا توجد في سورية اليوم أي دار نشر تتولى إعادة إصدار أمهات الكتب، التي لا يشك أحد بجودتها وبريادتها في المجال الذي تخوض فيه. وهذا الأمر لا يشمل فقط الكتب التراثية التي تستخدم مراجع، بل يشمل أيضاً الكتب التي صدرت أو ترجمت منذ مطلع القرن العشرين أو تلك التي قدمها اتحاد الكتاب العرب أو وزارة الثقافة للقراء منذ عقود مضت، فذاع صيت هذا الكتاب أو ذاك (ثم انطوى فكأنه لم يلمع) كما قال ابن سينا، فنفاد طبعة أي من الكتب الآنفة الذكر يعني غالباً انقراضه وعدم جدوى البحث عنه، فهل من حل لأولئك الذين لم يعيشوا في زمن صدور تلك الكتب، لكنهم قرؤوا عنها وأرادوا الاستفادة منها؟

الجواب عن هذا السؤال هو في وسط دمشق، على يسار محطة الحجاز حيث يرتفع جدار عند حافة الرصيف يخفي خلفه أربع أو خمس مكتبات محولاً إياها إلى ما يشبه السوق المصغر، تقوم هذه المكتبات بشراء الكتب المستعملة من أصحاب المكتبات المنزلية الراغبين ببيع كتبهم، ثم تقوم بفرزها وتصنيفها ثم عرضها للبيع بعد إعادة تأهيلها وترميمها إذا لزم الأمر، فكم من قارئ يائس من إيجاد ضالته دخل تلك المكتبات ثم خرج حاملاً الكتاب الذي أضناه البحث عنه، والسعادة تغمره! وكم من قارئ فوجئ بوجود كتب كان قد بدأ يعزي نفسه بعدم جدوى البحث عنها وبالتسليم بقضاء الله وقدره ! ولا تكتفي هذه المكتبات ببيع الكتب المستعملة، بل تقوم  بتصوير الكتب المطلوبة منها، ثم تجليدها وبيعها بسعر أعلى من أسعار الكتب العادية لأن عملية التصوير مكلفة نوعاً ما، ولذلك غالباً ما تتم هذه العملية بحسب الطلب وتستغرق أياماً عدة لتؤمن الكتاب لطالبه الذي لا يتوقف عند السعر المطلوب نظراً لحاجته إلى الكتاب وفرحته بإيجاده.

لكن هذا الحل الذي وفرته بضع مكتبات في دمشق ليس هو الحل الأمثل لهذه المشكلة، وفي الوقت نفسه لا يمكن الاستمرار بطباعة جميع الكتب دائماً، فهو أمر شبه مستحيل لكن يمكن إقامة تظاهرات ثقافية تقوم بها وزارة الثقافة أو مجموعة من دور النشر بإعادة طباعة الكتب المشهورة التي صدرت في السبعينيات أو الستينيات على سبيل المثال، وبيعها في معارض للكتب، وتكون هذه التظاهرات دورية تغطي في كل مرة حقبة معينة من التاريخ، على أن يترافق ذلك مع حملة تعرّف الناس على تلك الكتب ومكانتها، وعلى التأثير الذي أحدثته في الميادين التي تغطيها. وهناك حل آخر يتمثل بتحويل جميع هذه الكتب إلى كتب إلكترونية وتوثيقها ووضعها على الشبكة العنكبوتية،  لتصبح متاحة للجميع، وهو حل أسهل وأقل كلفة، لكنه حل غير محبذ لدى أنصار الكتاب الورقي، الذين لا يؤمنون بالحب العذري بين الكتاب وقارئه، بل يستمتعون بالعلاقة الجسدية التي تشمل اللمس والنظر والمداعبة.

العدد 1105 - 01/5/2024