الناس.. فحلٌ وبعوضٌ!

ما أشبه الناس بالطبيعة..

وما أقرب وجوههم وأفعالهم وقواهم إلى الأنهار والجداول والسواقي والمستنقعات، والجبال والوديان، والقمم والسفوح!

فمنهم أغصان، ومنهم أزهار وثمر، ومنهم جذور تحمل كل ذلك ولا تطلب الظهور والمباهاة. وما أقلهم وأندرهم في هذا الزمن… وفي كل زمن!

بعضهم سيوف وخناجر.. وآخرون قبضات من خشب أو حديد، بعضهم رؤوس، وكثرٌ ذيول وأذناب.

و يا لغرابة هذه الحياة.. (فأجمل ما فيها الناس، وأسوأ ما فيها الناس أيضاً ).

منهم من يشبه الهواء، لا يمكننا الاستغناء عنهم أبداً، ومنهم كالدّواء نحتاج إليهم وقت الشدّة والمصائب الكبيرة، ومنهم كالأمراض والبق والقمل والحشرات السّامة.

وبعضهم كسحاب أبيض، شكلها رقيق ناعم، إنّما لا تحمل في جعبتها المطر لأحد، ولا تترك خلفها إلا ظلالاً باهتة وصوراً زائلة، وبعضهم كالصّبار وجوز الهند، ظاهرهم إبر وأشواك وباطنهم حلو المذاق.

ومنهم أنهار.. بعضها جفَّ بعد أن سقى بمياهه العذبة كل ظمآن، وبعضها مليء إنما بالعلب الفارغة والجثث النّافقة، والتماسيح المفترسة.

(وأفضل الناس مَن كان بينهم كشهر آذار… سعادته في أنه أوجد الربيع ومضى قبل أن يذوق الثمر).

وبعضهم كالبعوض.. لا تكون حياتها إلا بامتصاص دم غيرها.. وبعضهم كالنحل، لا تكتمل سنوات عمرها إلا بالعمل والعطاء.

(إن الحياة زرعٌ دائم، وحصادٌ دائم، وإنّ مَن يزرع القطرب لا يحصد القمح، ومَن يغرس العوسج لا يجني العنب.. والإنسانية عجيبة حقاً وغريبة، وأعجب ما فيها أنّها قد أتقنت فنّ زراعة الحبّة وغرس النبتة في التراب، أمّا فن زراعة المحبّة في القلب، وغرس الأخوة في الروح، فما تزال تجهله الجهل كله!).

والذي رأسه من قش كيف سيتجرّأ أن يحلم بالنور والنار، وهل مَن وُلِد ليكون بوقاً وذيلاً وحشرة زاحفة يُرجى منه أن ينقلب رأساً شريفاً، ونسراً نبيلاً؟!

وهل كل مَن رأى الجبال وتأمّلها كان قادراً على صعودها والوصول إلى قممها؟ وهل جميع الظهور قادرة على حمل الأثقال نفسها، وهل كل مَن تحدّث عن العاصفة كان قادراً على أن يكون ويصمد في عين العواصف!؟

يظن البعض من الناس، أن حلق ذقونهم باكراً سيتيح لهم أن يصبحوا رجالاً، ولم يخطر في بالهم أن الفراشة لا تُوزن بالقبّان، والعقول لا تُقاس بطول الذقون، وجمال الشارب.

(ومَن كان عذباً جداً سيُبلع، ومَن كان مُرّاً جداً سيُبصق).

العدد 1105 - 01/5/2024