الأمل ينزف دماً

ارتفعت جدران الألم، وتخثَّرت شرايين الأمل.. ظلَّ سقف الحُلم معلَّقاً من قدميه، تكاد عيونه تخرج من محاجرها مثل قذائف زرعت على جانبي الطريق أو عبوات ناسفة انفجرت بزارعيها، وحصدت العشرات من رواد الظلام والمبشرين بقدوم أصحاب السواطير.

ظلّ صدى الانفجار يطوف في فضاء الغرفة، وينثر أوهاماً سَكْرى، ولكن سرعان ما تلاشت غيمة حُبْلى باليأس، وتفتّتت وتناثرت وشكلت أسطورة من لوحات تشكيلية، كأنَّ فناناً ماهراً رسمها بريشة مخضرمة لم تخطّئ أنامل الفنان يوماً!

سقطت ثمار الخريف الجوفاء.. وتابع الأمل نزفه قطرات الندى، وغسل الصديد المملح بالقهر والتهجير والنزوح والعري والنوم دون عشاء، لكنَّه بعد معاناة مزمنة مدَّ رأسه من نافذة كانت مغلقة منذ عقود.. وكان الفضاء يمتلئ بالزوابع، مقهوراً من الجفاف اللعين وعطش العباد والنبات والحيوان، وانتشار مرض العشا الليلي الذي أصاب الملايين، وهم ينتظرون قدوم النور من الأرض أو من السماء!

خلع الأمل مصراعَي النافذة.. فتح عينيه الوامضتين من بؤبؤين ملونين بزرقة البحر، مثل بركانين قابلين للانفجار في كلّ لحظة، مُشْبعتين بالنعاس والكسل، فاتسعتا وتجدد بصرهما، وأطلتا على الفضاء الواسع لتريا الناس والسوق والبضائع والغلاء والخضار والفاكهة.. وحتى كما قالوا (لبن العصفور)… وقالوا أيضاً: (العين بصيرة واليد قصيرة والجيوب فارغة.. و.. و.. و…). وقالوا: اقترب الشتاء من حدود القلوب.. وكان السنونو في الثلاثة أعوام والنصف الماضية العائد من هجرة طويلة، محمَّلاً بالشتائم مصوّباً أسلحته على الفاسدين، ومن يضحي بوطنه وأبنائه ويأوي تكفيرياً واحداً.. ويدَّعي بأنه تعلّم الكرم والضيافة من أجداد أجداده!

السنونو في السماء يشكل أسراباً أقلّ من سكان الصين بقليل، والجراد الزاحف من الصحراء أقل من سكان الهند بقليل، طحن مواسمنا ولم يترك أخضر ولا يابساً، وشكل سقفاً للمدينة كأنَّه (خيمة سنونية) ظللت الأرض، من أجل أن يستظلّ بفيئها الشهداء والثكالى والأيتام، عدا بعض المنافذ تُرِكتْ مفتوحة ليبني فيها قوس قزح قنطرة لألوانه ويبرّئ ذمّته، ويعطينا الأمل خوفاً من حدوث الطوفان..! وبدأ السنونو يلوّن السماء ويعطّرها بقدوم الربيع.. ليطمئن الأحباب والأصدقاء والأقارب والعُشَّاق بهذا السحر المطوّق ببراعم الأمل، ويدعو صادقاً للخلاص من الظلمة وقهر المقصلة وسواطير الشيشان، الذين ينتشون ويسكرون وهم يقطعون رؤوس الآمنين ويعلقونها على أسوار المدارس والأبنية.

انكشفت أسرار الغرب وعربان النفط والغاز والجَهَلة، الذين امتهنوا سياسة التحريض والقتل ودفع الديَّات قبل أن تسيل دماء الضحايا، ويسجّل المسعفون أسماءهم، بينما يقف أصحاب الأحذية الجلدية و(الدشاديش) البيض، التي تختفي تحتها أسرار جلود التماسيح وخنازير القمامة، ينتظرون الأخبار عن المجازر في سورية والعراق..!

ما أجملك أيها الوطن الجريح وأنت تخيط جروحك، وتداويها بالنضال ومطاردة جحافل السوء والموت والظلام. وتقدَّم الشهداء كل يوم في جبهات القتال… ودماؤك ما تزال تنزف منذ ثلاثة أعوام وأربعة أشهر..!

ما أحلى فصولك العشرة التي تبدأ من تلبية الواجب ونداء الوطن، وحفر الخنادق وتحضير الثياب والأسلحة وحقائب السفر إلى الغرب والشمال والشرق والجنوب..!

ما أجمل تلك الأيدي الناعمة لأطفال سورية وهم يضمدون جراحك، ويمسحون دموع الثكالى.. وما بقي على خدودهنَّ من تلال مالحة تُرِك ليوم الحاجة.. عندئذ تُحْفر التلال ويُرشُّ الملح على الجراح النازفة، فينتعش الأمل ويزهر ويتبرعم وتتبدد غيوم الظلام..!

العدد 1105 - 01/5/2024