الأزمة السورية ومنطق الفشل

إن التأثيرات اللامتماثِلة للمَعرفة المحلية في سورية، إن كان على المستوى الاجتماعي أو على المستوى الجغرافي، تباينت لدرجة ترسَّخ فيها نوع من الفوارق الحادة في البيئة الثقافية بين منطقة وأخرى من سورية، وهذا ماوَجب اعتباره مُشكلة قومية، ولم يكن سليماً حلها إلا برؤية معرفية-اجتماعية متكاملة.

ففي أزمة 2011 طغى جهل البيئات المتخلفة على كامل فئات المجتمع السوري، وأثّرت بعضها على بعض، وشكلت رَدة فعل جهلية من بعضها الآخر، أو سَببت الهِجرة والتبعية لأخرى. من هذا المنظور، لاتتضِح حالة تخلّف المجتمع السوري، إلا إذا نظرنا إليه، لا على أساس كُتلة واحدة من العلاقات المتبادلة، بل على أساس مجموعة من المستويات البنيوية الشاملة، فكرية واقتصادية وسياسية. كلْ مستوى لهُ علاقاته القلقة المتبادلة وغير المستقرة، وعلاقاته القلقة مع المستويات الأخرى، وتصب جميع هذه العلاقات في إطار التطور العام للمجتمع السوري سواء كان سلباً أم إيجاباً.

إن ما عَكَسته الأزمة السورية الحالية، هو تطور متفاوت للمستويات البنيوية المُختلفة للمجتمع السوري، أدى إلى تناقضات حادة داخلهُ، وهو ماعبرت عنه طُروحات النُخب السورية المختلفة. فالتطور الاجتماعي لاينشأ من العدم، بل هو حصيلة تفاعل المستويات البنيوية الشاملة في إطار تراكمي تاريخي وجدلي للمجتمع. وإذا كانَ الموروث الديني يُمثل معظم الحاوي الأيديولوجي التراكمي التاريخي للمجتمع السوري، فإنه حاوٍ مؤهل من الناحية العَملية لأن يتلقى أي فكر ماضوي، لذلك وَجدَ الفكرالوهابي والتكفيري تغذية مناسبة له، وحلَّ محل المعرفة التدريجية الخلاقة التي كان يجب أن تكون ناتجة عن مُعاناة الشعب وسعيه نحو التحرر من عبء الموروث وهيمنةِ الخارج. من هنا، ماكان للمجتمع السوري إلا أن يصل إلى مرحلة حادة من التناقض، شكّلت عبئاً تاريخياً لايمكن وفق منطقهِ، إلا أن تحصل ثورة اجتماعية. وهو ما يُعبِّر عنه المفهوم الماركسي (بضرورة الثورة في تطور التاريخ). لكن القيام بالثورة عن إرادة ذاتية – وإن كانت هذه الإرادة في حد ذاتها نبيلة وأخلاقية- في لحظة زمنية (ليست فيها الثورة ضَرورية وفق منطق التاريخ، يجعل من هذه الثورة مغامرة ترتد ضدها). وهنا يكمن منطق الفشل في تحقيق الثورة، وفق وجهة نظرالمفكرالكبير مهدي عامل. فالفِكر الثوري الحقيقي عند (الثورة) السورية 2011 كان يجب أن يكون نِتاج مُمارسات سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية تراكمية للتطور التاريخي للمجتمع السوري، تؤطر تَناقضاته وتُوجِهاته في إطار الهوية المعرفية-الاجتماعية لهذا المجتمع، وبغير هذهِ الهوية تفقد الممارسة التراكمية جوهرها، بالتالي تفقد ثوريتها. لكن في تلك اللحظة من التاريخ، لحظة عام 2011 عندما فُقِدت الهوية المعرفية والثقافية، حلَّ السقوط مكان الثورة، واغتيلت الثورة بدعم الخارج وعسكرة الداخل، واستُبدل بالفكر الثوري فكرٌ رجعيّ، غلافهُ الحرية والديمقراطية وجوهره الوهابية التقسيمية الطائفية، فكرٌ كان له مُسبقاً مقومات الاستيطان في المجتمع السوري.

العدد 1105 - 01/5/2024