«نظرية الدومينو» الأمريكية.. إلى أين؟

نشر في سنة 1996 ثلاثة من الباحثين الأمريكيين في جامعة (يال) Yale))، من بينهم الباحث المعروف بول كينيدي، دراسة مهمة بمجلة (شؤون خارجية)Foreign Affairs)  ) الأمريكية، تتضمن رؤية نظرية وإطاراً جديداً للاستراتيجية الأمريكية مابعد الحرب الباردة. وقد تركزت الدراسة حول كيفية احتواء مختلف الاضطرابات التي يمكن أن تمسّ المصالح القومية الأمريكية في مناطق محددة من العالم، أطلقوا عليها وصف (الدول المحورية). وهي رؤية تقوم أساساً على استمرار مايسمى (نظرية الدومينو)Domino Theory)) وتجديدها، وإعادة إحيائها وتفعيلها، بعد أن راجت في الأدبيات السياسية والوسائل الإعلامية الأمريكية والغربية في أثناء فترة الحرب الباردة، وشكلت حينذاك المحور التفسيري الرئيس للسياسة الخارجية الأمريكية في المناطق الحساسة للمصالح الأمريكية، مثل: كوريا، إيران، فيتنام، اليونان، أمريكا اللاتينية وغيرها (1).

  وجدير بالذكر أن التبنّي الرسمي لهذه النظرية في السياسة الخارجية الأمريكية يعود تحديداً إلى عهد الرئيس إيزنهاور(عاش من 1890-1969). ففي السابع من نيسان 1954 أطلق الرئيس الأمريكي دوايت إيزنهاور إحدى أشهر مقولات الحرب الباردة، عندما ذكر أن سقوط الهند الصينية (فيتنام) التي كانت تحت الهيمنة الفرنسية، في أيدي الشيوعيين، يمكن أن ينشأ عنه مايشبه عملية (الدومينو) في جنوب شرق آسيا، ذلك أنه لو سقطت دولة تتابع سقوط الدول الأخرى في المنطقة. وقد سيطرت (نظرية الدومينو) على الفكر الأمريكي بخصوص فيتنام على مدى العقد التالي، ففي أوائل عام 1954 اتضح للعديد من صانعي السياسة الأمريكيين أن الفرنسيين أخفقوا في محاولتهم استعادة السيطرة على الهند الصينية التي فقدوها أثناء الحرب العالمية الثانية عندما سيطر اليابانيون على هذه المنطقة، وكان الوطنيون الفيتناميون بقيادة المناضل الشيوعي هوشي مينة على وشك تحقيق نصر ساحق على القوات الفرنسية في (معركة ديان بيان فو). وخلال أسابيع قليلة، تقرر أن يقوم ممثلون عن القوى الرئيسة في العالم بالاجتماع في جنيف لمناقشة التسوية السياسية للنزاع الفيتنامي.وقلق المسؤولون الأمريكيون من انتصار قوات هوشي مينه، وأن الاتفاق في جنيف قد يبقي على سيطرة النظام الشيوعي على كامل الأرض الفيتنامية أو على جزء منها.وفي محاولة للحصول على دعم من الكونغرس والرأي العام لزيادة المساعدات الأمريكية للفرنسيين، عقد الرئيس إيزنهاور مؤتمراً صحفياً في السابع من نيسان عام 1954. وقد خصص معظم خطابه لشرح أهمية فيتنام للولايات المتحدة، مركزاً على المصالح الاقتصادية في المقدمة، حيث المواد الخام المهمة، مثل المطاط والكبريت، مع تركيزه على ما أسماه (خطر تعرض البشرية للديكتاتورية الشيوعية).

 وفي الختام أشار الرئيس إلى (نظرية قطع الدومينو المتساقطة)، أي أن سيطرة القوى الوطنية في فيتنام سوف يؤدي إلى سقوط دول جنوب شرق آسيا متتابعة.وبيّن أن اليابان نفسها سوف تكون في خطر.وكان لكلمات إيزنهاور حينذاك صدىً فوريّ مباشر ولكن بشكل عكسي، ذلك أنه بعد شهر واحد سقطت (ديان بيان فو) في أيدي الثوار الشيوعيين، وتم التوصل لاتفاقية في مؤتمر جنيف تركت لقوات هوشي مينة  السيطرة على شمال فيتنام، ولكن على المدى الطويل، أصبح إعلان إيزنهاور (لنظرية الدومينو) أساساً لتدخل الولايات المتحدةفي فيتنام،  واستخدمها كل من الرئيسين جون كينيدي وليندون جونسون لتبرير مطالبهما بزيادة المساعدات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية لفيتنام الجنوبية غير الشيوعية، وفي نهاية الأمر تورطت القوات الأمريكية في حرب هناك في عام 1956.

سيطرت (نظرية الدومينو) على فهم كثير من الشخصيات السياسية والعسكرية الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية للأوضاع في شرق آسيا وجنوب شرقها وأمريكا اللاتينية، مستمدة من تشبيه مجموعة الدول المتجاورة بقطع لعبة الدومينو المتلاصقة، والتي يؤدي سقوط قطعة منها إلى سقوط مجموعة بأكملها قطعة إثر قطعة.أما الخلفية المباشرة التي أثرت في نشوء هذه النظرية، فتعود إلى عاملين، أحدهما إقليمي والآخر كوني.العامل الأول منشؤه (المسيرة الثورية الكبرى) لانتصار القوى الثورية وجيش التحرير الشعبي الصيني بقيادة الزعيم ماوتسي تونغ في الحرب الأهلية الوطنية الصينية، وتخوف بعض السياسيين الأمريكيين في عام 1947 من أن يؤدي (سقوط الصين في يد ستالين) – وفق زعمهم- إلى سقوط آسيا بأكملها في النهاية، وبضمن ذلك اليابان وكوريا والفيلبين وأندونيسيا..إلخ، وعندئذ فإن استقلال الولايات المتحدة نفسها لن يعمر جيلاً (إثر سقوط الصين والدول الآسيوية المحورية المجاورة).أما العامل الثاني، فقد تمثل بنشوب ما سمي (الحرب الباردة) بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، والمعسكر الشرقي (الاشتراكي)بقيادة الاتحاد السوفييتي في ضوء صعوبة حسم الخلافات والتناقضات بين المعسكرين بقوة السلاح، وفي ضوء المعارضة القوية والشاملة لحرب جديدة بعد الحرب العالمية الثانية، ومن ثم إدراك طبيعة الدمار المتبادل الذي ستخلفه الحرب النووية لو قدر لها أن تحدث (2).

  إن نشوء (نظرية الدومينو) مرتبط بالأهداف السياسية والاستراتيجية الكونية الأمريكية، وبسياسة الاحتواء التي انتهجتها إزاء احتمال انتشار الأنظمة الوطنية المعادية للاستعمار في العالم، وبالتالي الرغبة في إيجاد الذرائع وتهيئة الظروف المناسبة للتدخلات العسكرية ضد التحولات التحررية والثورية في مناطق العالم المختلفة.وعندما بدأ نضال ثوار (الفيت منه) يتصاعد ضد الاستعمار الفرنسي في فيتنام، أخذ العديد من القياديين السياسيين والعسكريين الأمريكيين يطالبون بالتدخل العسكري الأمريكي والمشاركة في الحرب إلى جانب الفرنسيين بذريعة منع سقوط الهند الصينية في أيادي الشيوعيين، مخافة أن يؤدي ذلك إلى سقوط سلسلة قطع (الدومينو)، كما جاء آنذاك على لسان الأدميرال الأمريكي رادفورد. وقد جاء تصريح رادفورد معبراً عن أفكار دالاس وزير الخارجية الأمريكية ورئيسه دوايت إيزنهاور، اللذين أهابا بدول المعسكر الغربي إلى ضرورة المشاركة في (ردع العدوان الشيوعي) بأي أسلوب مناسب، على حد قولهما. ولا شك في أن هذا النوع من التفكير كان وراء الجهود العسكرية الغربية في شبه الجزيرة الكورية، كما أن الرغبة في منع التحرر التدريجي لمناطق النفوذ الغربي، كانت وراء لجوء دالاس نفسه إلى إنشاء أحلاف عسكرية إقليمية، واعتماد نهج التهديد بالدمار الكوني الشامل، بموجب سياسة (حافة الهاوية) رداً على التقدم البطيء والمتقطع والمحلي المتعدد الجهات في آسيا وإفريقيا لحركات التحرر الوطني ذات التوجهات اليسارية والثورية.

 وبالمقابل يذهب بعض الباحثين والمحللين السياسيين والاستراتيجيين إلى القول إن الهزائم المتتالية التي لحقت بالولايات المتحدة والأنظمة الحليفة لها في جنوب شرق آسيا في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، تبرهن على صحة (نظرية الدومينو)، ولا تدحضها.

 والمسألة الأخرى الجديرة بالذكر، تتمثل بأن دعاة (نظرية الدومينو) لم يريدوا لها أن تقتصر على جنوب شرق آسيا، بل حاولوا تعميم مفاعيلها (الإيجابية من وجهة نظرهم) على مناطق حيوية أخرى في العالم، وفي مقدمتها أمريكا اللاتينية، التي يعدها قادة الولايات المتحدة بمثابة (الحديقة الخلفية) لواشنطن. وفي إطار هذه الرؤية قامت الولايات المتحدة بتدخلات عسكرية واستخباراتية واقتصادية كثيرة، وتعد كوبا النموذج الساطع لهذه الأعمال القذرة، بدءاً من عام ،1961 حين جرت محاولة إنزال أمريكية فاشلة (لقوات المارينز) (البحرية الأمريكية) ومعها جماعات من العملاء الكوبيين المعاديين للثورة، وذلك بتخطيط (وكالة المخابرات المركزية الأمريكية) وتدبيرها وقيادتها. ولم تتوقف المؤامرات والخطط الأمريكية ضد النظام الثوري في كوبا وزعيمه فيديل كاسترو إلى اليوم، وفي مقدمة هذه الأعمال العدوانية السافرة، الحصار الأمريكي الاقتصادي الظالم ضد الشعب الكوبي والمستمر منذ ستينيات القرن الماضي.

 ونشير في هذا الشأن إلى أن الجمعية العامة للأمم المتحدة (للمرة الثالثة والعشرين)تبنت قراراً في اجتماعها السنوي في 28 تشرين الأول 2014 بأغلبية ساحقة (188 دولة من أصل 193)، يدعو الولايات المتحدة الأمريكية لرفع حصارها الاقتصادي والتجاري غير الشرعي، الذي تفرضه ضد كوبا وشعبها المسالم، الرافض لأي تدخل أمريكي في شؤونه الوطنية الداخلية.

ويندرج في هذا السياق التدخل الأمريكي في نيكاراغوا في عام ،1961 لمحاولتها انتهاج سياسة مستقلة عن طريق مساعدة القوات المناوئة التي عرفت وقتها باسم (الكونترا)، ما أدى في النهاية إلى إسقاط حكومة (الساندنيستا) الشرعية في تلك البلاد. إضافة إلى سلسلة من التدخلات العسكرية الأمريكية المباشرة في كل من (باناما) و(جمهورية الدومينيكان) (1965-1966)، و(غواتيمالا) (1966-1967) ومحاولات انقلابية وتدخلية كثيرة لا مجال للتفصيل فيها هنا.

وقد أعلن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون (من عام 1969-1974) ووزير خارجيته هنري كيسنجر، بشكل صريح ودون مواربة أن نجاح المرشح اليساري في انتخابات الرئاسة في تشيلي سيلفادور الليندي، من شأنه أن يشكل أرضية مهيئة لتساقط أنظمة الحكم الموالية للولايات المتحدة في عموم قارة أمريكا اللاتينية على طريقة تساقط قطع (الدومينو). واستناداً إلى هذه الاستراتجية رتبت (وكالة المخابرات المركزية الأمريكية) انقلاباً دموياً في الحادي عشر من أيلول 1973 على الرئيس اليساري الشرعي المنتخب سيلفادور الليندي، من خلال قائد الجيش الجنرال أوغستوبينوشيه، وقد أدى هذا الانقلاب الإجرامي إلى مصرع الرئيس الليدي مقتل آلاف المواطنين التشيليين والأوربيين وحتى الأمريكيين في (ملعب الموت) بالعاصمة التشيلية (سانتياغو). كما أعقب ذلك سلسلة طويلة من التدخلات العسكرية والأمريكية، الهادفة لإجهاض ومنع (تساقط قطع الدومينو) في دول أمريكا اللاتينية، على مدى العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي شملت السلفادور (1981-1992)، ونيكاراغوا (1981-1990)، وهندوراس (1983-1989) وبوليفيا (1986) وباناما (1989-1990)، ومحاولات عديدة فاشلة لإسقاط نظام الرئيس الفنزويلي الشرعي هوغو شافيز، وطبعاً لم تتوقف هذه التدخلات والمخططات لغاية الآن.

 

الحواشي:

1- نقلاً عن: الدكتور محمد سعدي، مستقبل العلاقات الدولية من صراع الحضارات إلى أنسنة الحضارة وثقافة السلام، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2006)، ص 205 خاصة الهامش رقم(190).

2- د.عبد الوهاب الكيالي، المؤلف الرئيسي ورئيس التحرير، موسوعة السياسة، ط1 (بيروت:المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1982) ص، 731-732.

العدد 1105 - 01/5/2024