منابع قوة الأحزاب الشيوعية

تتباين الآراء حول ترتيب مصادر قوة الأحزاب السياسية، فيرجع بعضهم تلك القوة إلى المرجعية الفكرية النظرية، التي يستند عليها العقل الجمعي للحزب في فهم العالم والطبيعة والمجتمع على اختلاف طبقاته وتباين مصالحها، وبالتالي رسم سياسته على هدي هذه النظرية أو تلك.

بينما يذهب آخرون إلى أن قوة الحزب تكمن في عدد أعضائه وبنائه التنظيمي، وقدرته على رص صفوفه وحشد أعضائه، وتلاحم جهودهم، داخل البناء الحزبي وخارجه.

ثمة من يقول إن قوة الحزب في جماهيريته وإمكاناته على تجميع أكبر قدر ممكن من أنصاره وأصدقائه الذين يلتفون حوله، لدوره الفكري، أو لمجمل نشاطه السياسي، أو لوفائه لمبادئه وشعاراته وإخلاصه لمواقفه الوطنية والطبقية والإنسانية، ولتبنيه مصالح الجماهير الشعبية، والدفاع عن حقوقها.

الحقيقة أن قوة أي حزب سياسي تكمن في محصلة تفاعل مجموع ما سبق، في وحدة عضوية، لا تفصل بين القول والفعل، بين النظرية والتطبيق، بين الشعار والإمكانيات الواقعية لتحقيقه.

جوهر الاحتفالية

المناسبات الاحتفالية بأشكالها المختلفة، لا تكتمل قيمتها إذا لم تشمل وقفة متأنية عقلانية، موضوعية، من تجربة الحزب المحتفى به، ومن مراحل تطوره، فالحزب الذي لا يغتني بالتجربة، ويطور نفسه، وفق المتغيرات المحيطة به، من الصعب أن يستمر في الحياة، وإذا استمر بفعل إرثه التاريخي، المحمول على مواقفه الوطنية والطبقية، في أزمنة مضت، لا يمكن أن يعيش على تلك الحوامل، المتعلقة بأمجاد الماضي، في حاضر معقد، مضطرب، ومستقبل غامض.

الوقفة النقدية، أمام تجربة الحزب الشيوعي السوري، ونحن نحتفل بذكرى تأسيسه التسعين، تبقى إحياء للذكرى، إذا لم تتضمن قراءة نقدية، ومراجعة لمواقفه وأهم محطات تطوره.

هذه المقاربة، لا تدعي التصدي لهذه المهمة، التي تتطلب جهود أكثر من فرد وهيئة، فهي تحتاج إلى عمل أكاديمي، بحثي، محايد، منصف وموضوعي.

هناك فرق كبير بين النقد والتحليل، وإطلاق التهم والشتائم، والوقفة المطلوبة هي ما تجعل من ذات الحزب موضوعاً للبحث، وفقاً لمنهج علمي، جدلي، يتسلح به الحزب، آخذاً بعين الاعتبار الظروف والشروط التاريخية التي مر بها الحزب، منذ بداية تشكله إلى دوره ومكانته في الزمن الراهن.

لعل من أهم الأخطار المحدقة بتناول تاريخ الحزب، المبالغة في دوره، وتأثيره في حياة البلاد السياسية، أو التقليل من هذا الدور، والتجني عليه، وعلى مواقفه بتهميشه ونكران دوره، وكلا الموقفين يضر الحزب ويسيء إلى تاريخه. أما الموقف الأول الذي يقوم على المبالغة في أهمية الحزب واستعراض قوته العددية والتنظيمية، وتأثيره الفكري والسياسي، فيؤدي في الوعي إلى مقارنة آلية، بين ماضي الحزب وحاضره، هذه المقارنة لا تستند إلى مرجعيات موثقة وموثوقة، تفضي بحكم تسرعها وآليتها إلى استنتاج خاطئ يؤدي إلى التشاؤم وإغلاق أفق التطور أمام الأجيال الجديدة، بسبب عدم التطابق بين ماضي الحزب وحاضره.

أما الموقف الثاني، الذي يقوم على التقليل من قيمة الحزب، ومن دوره وأهميته في حياة البلاد، فيؤدي إلى حرمان هذا الحزب من جزء هام وحيوي من تاريخه، ومن مواقفه التي يشهد له فيها حتى أشد خصومه في الفكر والسياسة، فتاريخ الحزب حافل بالمآثر البطولية، والمواقف النضالية، التي لا يستطيع جاحد أو منكر للحقيقة إلا أن يسجل ويعترف بأن الحزب الشيوعي السوري، هو أول حزب سياسي في سورية، ينقل إليها الفكر الماركسي، ويتحدث عن التضامن الأممي، وعن وحدة الطبقة العاملة في العالم، وعن دورها في وأد النظام الرأسمالي.

كما أن أحداً لا يمكن أن يسجل على هذا الحزب، موقفاً يتعارض مع المصلحة الوطنية، فقد كانت القضية الوطنية بوصلته المحددة لمجمل سياساته منذ فجر نشأته إلى اليوم.

يعترف الجميع للحزب بأنه مزج مزجاً خلاقاً بين النضال الوطني والتقدم الاجتماعي، وجعل الاشتراكية هدفاً نضالياً له، مسترشداً بالفلسفة الماركسية، والمادية الجدلية، كواحدة من أهم الفلسفات والنظريات المرجعية له.

تسعون عاماً تحمل في خلاياها الكثير من المواقف المشرفة التي سطرها الشيوعيون السوريون بأفكارهم وتضحياتهم ونكرانهم لذواتهم،  وصمودهم في السجون، وهذا جزء من واجبهم الوطني والطبقي والأممي.. والتذكير بهذه المفاخر ليس من قبيل التباهي، وإنما هو رد على الجحود والتجاهل التي يتعرض له تاريخ الحزب ومواقف قياداته وأعضائه.

كل تلك المفاخر لا تحجب عن الحزب ولا تغيّب النواقص التي على قيادته وأعضائه، أن يقفوا عندها، في وضع عالمي متشابك معقد، تتسارع أحداثه، وتسيطر على مقدراته قوى جشعة، متسلحة بالعلم، ومنجزات ثورات المعرفة، والاتصالات، فالمهام اليوم، أكثر تعقيداً تتطلب وعياً نوعياً، ودقة في التحليل، وعقلانية في اتخاذ المواقف، وإبداء الآراء، فإذا كان الوضوح يميز عالم الأمس، فالضبابية والتضليل واستخدام التقانة بأقصى استطاعتها هي مايميز عالم اليوم.

الحزب في ذكراه التسعين، مدعو إلى تجديد طاقته، وحفز إمكاناته، ووصل حاضره بأمجاد ماضيه، دون مبالغة أو شعور بالإحباط، فمهما تشعبت الطرق، وتنوعت المسالك فالشيوعيون، بما يملكون من وعي نظري وتجربة عملية وروح نضالية وقدرة على التجديد وديناميكية في التغيير واستعداد لتقبل النقد، وانفتاح على المتنوع، ومرونة في التعامل مع المختلف، قادرون على تجاوز المصاعب، التي يواجهها حزبهم،  الذي بلغ التسعين، لكنه ما زال في مقتبل العمر، لأنه يمتلك قابلية التجدد والتجديد، وإمكانيات التطور والتكيف مع المتغيرات المحيطة به وطنياً وإقليمياً وعالمياً.

العدد 1107 - 22/5/2024