من بجماليون إلى داعش

قد يبدو العنوان غريباً، وقد يبدو متنافراً، ف (بجماليون) منظومة من الفن ناطقة، استحالت من جامد إلى حي، أما داعش، فمصطلح اشتق اشتقاقاً نحتياً من (دولة العراق والشام)، والاشتقاق هنا انتقال من الحي إلى الجامد..  بين بجماليون وداعش عصور مديدة من الأزمنة والأمكنة والفن والفلسفة، فبجماليون أسطورة يونانية قديمة تقول: (إن المثّال القبرصي البارع نحت من العاج تمثالاً لامرأة أطلق عليها اسم (غالاتيا) فابتعثت أفروديت في قلبه حباً عنيفاً لهذا التمثال لتعاقبه على امتناعه عن الزواج).

بلغ من حبّ الصانع أنه آمن بمصنوعه، على أنه من عالم الخوارق التي تستحق الانضمام لمجمع الآلهة…أعجب كثير من القدماء والمعاصرين بالأسطورة، فكتب(أوفيد) اللاتيني من وحيها شعرا ونثرا (43 ق.م)، ومن المعاصرين كتب الأديب المصري توفيق الحكيم مسرحيته بجماليون-و من الانجليز كتب برنارد شو (1856-1950) تحت العنوان نفسه مسرحية هي الأشهر-و له مسرحيات عديدة، تناولها المخرجون بإظهارها للعالم أهمها، البطل والجندي 1894 رجل القدر، لا رائحة للمال (1842)، الرجل السوبرمان (1903)، بيغماليون (1912)، لكن (شو) تصرف بالأحداث وبالأبطال بما يتناسب مع الحياة الغربية السياسية، ولاسيما أن (شو) كان داعية للأدب الواقعي الاشتراكي، ومن يقرأ (شو) سيجد القرابة التيبولوجية شديدة الأواصر مع (ماركس)، فقد اتخذ من بطله (هيفن) نموذجا للثري المتخصص بعلم الصوتيات، وهذا العلم متطور من الدرس اللغوي بعد أن تاخمه (التجريب) وصار مدخلا لعلوم أخرى، وهو يقارب فكرة إنطاق التمثال، لكن (شو) نقله إلى المرأة الجميلة متعثرة النطق…

وقد أراد شو تعميم فكرة مؤداها:يمكن تبديل طبيعة الإنسان بالتعليم، ويمكن إيجاد خلق جديد ناطق في مخلوق فطري صامت، لكن البطل الذي نجح في إنطاق الفتاة أخذ يؤمن بأنها الأصلح لتكون زوجته، الزوجة التي أنطقها علم اللغة مقيساًعلى الفن الذي أنطق الجامد وتدعى (أليزا). لقد أحبها شو وعطف عليها إلى درجة التصديق بأنها شخصية واقعية…

و من الشعراء العرب من استحضر-بنسق مضمر-أسطورة بجماليون بدوي الجبل.. وهو يرثي زعيما سياسيا من البرجوازية السورية، ويهجو آخر،وكأنه يخوض معركة سياسية أخرى دفاعاً عن انتمائه السياسي، فيقول:

صَنَمٌ جُنَّ نَاحِتوْهُ فضلوا ..|.. فِيْهِ كفرَاً برَبهمْ ومرُوْقا

عَبَدُوْهُ فيَا لِسَخْرِ اللياليْ ..|.. خالقٌ رَاحَ يَعْبدُ المَخْلوْقا

وبصرف النظر عمن يقصد الشاعر أو عن مناسبة القصيدة.. فإنّ الشاعر استدعى الأسطورة ووظفها في السياق المبتغى، من دون أن يذكّر المعنييّن ببجماليون.

أمّا داعش فهي خرافة العصر، طبعاً لا أسطورته، فهذه المنظومة ناتجة عن التنظيم العالمي للإخوان المسلمين ذي المنشأ البريطاني 1928 عندما اشتم الباحثون التجريبيون رائحة النفط في الجزيرة العربية، ثم قدّم المستشرقون ما لديهم عن البدائل السياسية القائمة، وعن البدائل الاحتياطية المحتملة، في سعي من الطرفين لاستملاك (الجزيرة) طالما هي مصدر الطاقة.. وبطبيعة الحال لم تكن القوى الإسلامية المتشددة بقادرة على التشكل السياسي والتهيكل التنظيمي السريعين، لولا أن تلاقت عوامل داخلية، تهم النظم القائمة، وعوامل خارجية وجد فيهما (الأطلسي) ضالته، بعد أن خسر أهم مرتكزاته في الشرق وهو شاه إيران محمد رضا بهلوي 1979 وإثر تلك الانتفاضة الشعبية الشاملة يطلّ رجل الدين الإسلامي بعمامته السوداء لأول مرة منذ عصور.. كان هذا حافزاً على إنتاج مصطلح جديد في المنظومة الإسلامية هو (الصحوة الإسلامية)…

وكأن الصحوة بديلٌ الدولة السياسية، وكأن العالم العربي لم يكن صاحياً، وخاصة بعد أن تراجع المدّ القومي باتجاهه الاشتراكي،ومن هنا ينتفض التنظيم الإخواني في مصر وسوريا والأردن مدعوماً من النظم العربية ذات العلاقة المضطربة مع إيران الجديدة، هذه (الإيران) هي الخصم التاريخي قومياً ومذهبياً، فاستفاقت يأفكار حسن البنا المؤسس المصري الذي اغتيل 1949 ومن أقواله الدالة عليه: (إن الإسلام مصحف وسيف) واللافت الغريب أن حسن البنا نفسه لم يعارض الدستور المصري 1923 شبه العلماني، لكن تلميذه سيد قطب يفضي برأي متطرف في التحولات السياسية الحديثة ما نصه (إن الدعوة القومية دعوة للعرق والتراب في مواجهة النفحات السماوية..، وإن الديمقراطية والاشتراكية على حد سواء في تأليه غير الله (ولم تكن دعوة قطب بدعة) جديدة في العالم الإسلامي، فلقد أسست لهذا في وقت مبكر المرجعياتُ الإيرانية الدينية إثر الثورة الأولى على الشاه مع مطلع القرن العشرين 1906 حيث طالبتْهُ النخبة الدينية السياسية حينها بالدستور المشتق من النصوص الإسلامية، وذهبت تلك النخبة إلى القول: (إن الشورى الإسلامية التقليدية تساوي الدستور والبرلمان في العصر الحديث)..

ومن الملاحظ أن وتائر النزاع مع الأصولية الإسلامية بدأت على شكل نزاع سوسيوثقافي، لكنه انتقل إلى الضفة الأخرى مع اشتداد النزاعات الدولية أو ازدياد الاستقطاب السياسي في المنطقة والعالم، حيث اختط الإسلاميون برنامجاً مختصره: إن الجميع خارج مارق لكن (الاشتراكيين) هم العدو الأول.. ولأنّ الخصوم على تنظيم وقوة دعا سيد قطب إلى التنظيم واستملاك القوة، ففي كتابه (معالم على الطريق).. إن الإسلام لا علاقة له بما يجري في الأرض اليوم، لأن الحاكمية ليست له، لا بد من قيام مجتمع إسلامي يتخذ الإسلام شريعة له…لا بد من درجة من القوة لمواجهة المجتمع الجاهلي.. قوة الاعتقاد والتصور، وقوة الخلق، والبناء النفسي، وقوة التنظيم، والبناء الجماعي، وسائر أنواع القوة التي يواجه بها المجتمع الجاهلي…. ).

ما قاله سيد قطب في 1966تردده التنظيمات السياسية الإسلامية اليوم، سواء أكانوا (دواعش)…. .أم غيرها من (النصرة)أو (الجبهة) أو (الأحرار) أو (التكفير والهجرة) أو (الائتلاف) – (العدالة والتنمية) أو (العدالة والحرية)، فكلها مفردات أو صفات للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، أو مترادفات، واللغويون العرب على خلاف في مسألة الصفات والمترادفات…لكن هذه العناوين لا خلاف بينها إلا بالتبعية للممول المالي أو الإعلامي أو العسكري)…. ولا(خلاف) نعني الخلاف الأيديولوجي..، فكلها نشأت من التفسيرات الفردية للنصوص الإسلامية، ثم عمّمها أصحاب المصالح فاستثمرها الغرب الديمقراطي ، بل الديمقراطي جداً.

قامت عقلية التنظيم العالمي للإخوان على فكرتين:الأولى: هي الجاهلية…. والثانية:هي الحاكمية، وبحسب ما يرون : فالعالم جاهلي ما لم تحكمه الشريعة، فهو يحتاج إلى مواجهة بالعنف وتثبيت دعائم الشريعة بالعنف أيضاً…. ويستندون فيما يستندون إليه إلى( بعض الآيات القرآنية التي جاءت في سياق الصراع بين المسلمين في المدينة وقريش.. )…لكن الآيات التي تتم قراءتها من قبلهم قراءة خاصة ويعتمد عليها في إسقاط دلالاتها على الحاضر، ومنها (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)، وفي موقع آخر (إن الحكم إلا لله) وإن هنا للنفي وإلا للحصر…إذا لا بد من نفي القانون والشرعة عن البشر، ولا بد من حصرها بالله وحده… و من المفيد التذكير به هو أن سيد قطب قد ابتعث إلى الولايات المتحدة للدراسة على نفقة الحكومة المصرية، وعاد منها 1950 إثر ذلك ادّعى عداءه السافر المعلن لأمريكا والغرب…و اللافت العجيب أن ظاهرة الإخوان- في علاقتهم مع الغرب-ظاهرة مرت بأطوار:أولها إعلان الحرب الأيديولوجية التي أسس لها سيد قطب والمبنية على القطيعة التامة مع الداخل، على أنه يمثل الاشتراكية (مصر-سورية-الجزائر-العراق) ومع الخارج، الغرب كله من الأورال الروسية إلى سواحل الهادي الغربية.

والطور الثاني هو التواطؤ غير المعلن مع الغرب عندما تكون النظم العربية على غير مقاسات الغرب الرأسمالي، أما الطور الثالث فهو التحالف الذي نشهده اليوم.

ولأن الطرفين: الرأسمالية الأوربية وهي في طور الإفلاس، والعالم الإخواني وهو متعطش للسلطة، يمران في وضع يقتضي تحالف النقيضين، ثم ينتج عنه تواطؤ كل منهما على مبادئه، لعله يتجاوز ما يمرّ به، ومع وصول (العدالة والتنمية) التركي إلى السلطة وهو ناتج إخواني بلا ريب، يبدأ مشروع أخونة الأقطار العربية تحت المظلة العثمانية بالانطلاق، وقد استطاع الإخوانيون تحقيق النجاح الشعبي (عبر صناديق الاقتراع) لسببين:الأول هو الحس التاريخي للشعوب الإسلامية القائم على المعطيات الإسلامية، والثاني هو فساد النظم والإدارات في الدول العربية الذي ساهم بدوره في إفقار الأغلبية الساحقة من المجتمع، وهذه الأغلبية كانت تؤمل الحلين: السياسي والاجتماعي عبر القوى الدينية، وهذه القوى لم تكن مجرَّبة في الحكم، ورغم عراقة الإخوان في مصر ودعم الرجعية العربية المعلن لهم لم يقووا على البقاء في السلطة سوى عام واحد، وهنا نستذكر خطاب د.يوسف القرضاوي… في ميدان التحرير حين خاطب الجمهور المنتفض: (أيها الأقباط، أيها المسلمون) متغافلاً عن كلمة (المواطن) فقد شطر مصر إلى شطرين على أساس ديني، وكأنه لا يجمع بينهما نضال وطني ولا تاريخ ثقافي، وكأنه لا يجمع أيضا بينهما الطبيعة أو نهر النيل، والخطاب كان مدروسا بشكل استشراقي، ولم يكن القرضاوي بأكثر من مذيع له، وللقرضاوي تاريخٌ في معاداة الوطنية، ففي كتابه (الحل الإسلامي فريضة وضرورة…يقول: (لقد فشل الحلاّن: الليبرالي والاشتراكي في تحقيق نصر عسكري في قضية العرب والمسلمين. قضية فلسطين التي فيها بيت المقدس.و فشلت الاشتراكية بعد أن أصبح العسكريون هم القادة السياسيون..) يتجاوز القرضاوي عمداً إنجازات ثورة 23 يوليو في الزراعة والصناعة والتعليم والتأميم….  ولم يكن ليهتم بفلسطين على أنها أرضٌ محتلة، إنما اهتم بها لأن المحتل غير مسلم، ولأن فيها مشاعر إسلامية، ولعل الفارق المائز بين الحركات الإسلامية يكمن في مرحلة النضال الوطني، ففي المشرق العربي (مصر-الشام-العراق (ارتبطت المسألة الوطنية بمشروع الإصلاح الديني (الإسلامي حصرا) بدءاً من النخب الأولى جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، لكن المفارقة أن النضال السياسي التحرري من العثمانية (شكّل القطيعة بين الأسلمة.. وبين التحرر الوطني.. في حين كانت أقطار المغرب في حالة صراع مع المستعمر الغربي (المسيحي)…. مما جعل الإسلام هوية تحررية التأم فيها الجانبان: الديني والوطني. ومع قيام الدكتاتوريات العسكرية في المشرق العربي وغياب الأحزاب السياسية عن الفعل السياسي أو تغييبها…تظهر الفجوات بين السلطات والجماهير، ثم تتوسع خاصة بعد انهيار الطبقة الوسطى تحت تأثير المرحلة البيترودولارية. ومع هذا الانهيار تتراجع الثقافة الطليعية الرائدة، وتحل محلها الثقافة الأحادية الإقصائية).

واللافت أن العالم الغربي كان يشجع القوى الإسلامية على برنامجها ويدفع بها كبديل (فزاعة) بوجه النظم ذات التوجه الوطني المعادي للغرب، وقد عرف الأمريكيون كيف يجدون لأنفسهم المدخل المناسب بعد الانقلاب الديني في إيران 1978. وبعد الدخول السوفييتي إلى أفغانستان 1979 للتعامل مع القوى الإسلامية.فوظّف المال النفطي في صالحه، ليستثمر في التناقض التاريخي بين السنة والشيعة، ودفع بالرجعية العربية لتدفع بدورها النظام العراقي إلى حرب مع إيران 1980 ثم إلياحتلال الكويت.. 1990.لتدخل المنطقة من بعد ذاك الحدث في السديم السياسي والاقتصادي…

ولكن ما العلاقة بين بجماليون وداعش؟!…

عندما واجه الأمريكيون السوفييت في أفغانستان 1979-1989إنما واجهوهم بتواطؤ العالم الإسلامي الذي يشبه التحالف الذي قدم البشر بغير حدود، وقدّم الغرب بقيادة الأمريكان الخبرة العسكرية والميديا الإعلامية بغير حدود…. وكان مصطلح (المجاهدون) هو الغالب على الألقاب الأخرى، لمن يحمل السلاح في وجه الجيش السوفييتي (الكافر)، وكان الإعلام الغربي الناطق بلغات عديدة ومنها العربية يعمم مقولة الجهاد ومصطلح المجاهدين..  مادامت الفكرة وشقيقاتها موظفات في صالح الغرب الأطلسي…

وبعد تفكك المنظومة السوفييتية لم يعد الأطلسي يحتاج إلى المجاهدين، والمجاهدون دائمو البحث عن الخصوم، فوجدوه في حليفهم بعد غزوه للعراق 1991م، وهكذا اصطنع الأطلسي المصطلح الجديد (الإرهاب)، وهو يعني عندهم الانفصال عن اتجاه مصالحهم، في2001م تفصح أحداث الحادي عشر من أيلول عن تناقض بنيوي في المركز الامبريالي العالمي…أخرجته الدبلوماسية الأمريكية مخرجاً كذباً..  فحمّلوا الإرهاب المسؤولية ويعنون حليفهم السابق.. الذي ابتدعوه بأنفسهم.. لكنهم ابتدعوه من تاريخه هو وليس من تاريخهم هم..  وكان توظيفه مثمراً حتى أوصلهم إلى تحطيم العراق 2003 م.

ومن بدائع العرب في الجاهلية أنهم كانوا يصنعون أصناما من تمر، وعند الحاجة والجوع يأكلونها.. فإن صحَّت المروية هذه.. فإن الأمريكيين صنعوا أصنامهم غير مرة، والتهموها غير مرة، والغريب أن صانعي الجاهلية الجديدة يصدّقون.. بل يصدقون بسرعة.. أما النحات الذي صنع تمثال بجماليون فقد أدرك القيمة الكامنة في مصنوعه.. فكان الفن وسيطا بين (الواقعي) و(الأسطوري)، فيما الأطلسي بعامة والأمريكي بخاصة ينقلب على ذاته كلما اقتضت المصالح فيحتقر مصنوعيه.. ويبدّل لهم الأسماءوالصفات. وأما داعش…. فظاهرة خطيرة تفصح عن خرائط جديدة أخطر من خرائط القرن العشرين، وسيغدو بلا ريب في المنطقة كيان يولد سفاحاً بين الأصولية الإسلامية والامبريالية الأمريكية.. أهم أهدافه أن تكون إسرائيل حالة طبيعية وضرورية، وهنا نتخيل لو أن الشاعر بدوي الجبل استفاق بقدرة قادر، ورأى ما رأيناه وما نراه، لغيَّر في ترتيب البيت لفظا ومعنى وربما قال…:

أكلوْهُ فيا لسخرِ الليالي ..|.. خالقٌ راح يأكلُ المخلوْقا

العدد 1107 - 22/5/2024