بمرور الزمن…

بمرور الزمن تصبح حبّة القمح سنبلة، وشتلة الزيتون شجرة، وقطرات المطر نبعاً، ونُداف الثلج ثوباً وكفناً يغطي قمم الجبال وسفوحها.

 بمرور الزمن تنقلب الدودة فراشة، والفرخ نسراً، والجرو ذئباً، والصوص ديكاً، والعجل ثوراً، والولد رجلاً.

إنما ليس بالضرورة إذا صار الجرو ذئباً أن يصبح ذئباً حقاً، أو أن يتخلى العجل عن حماقته وينقلب إلى ثورٍ حكيم، والولد إلى رجلٍ عاقل!

فكثيرٌ من الذين يكبرون لا يكبرون إلا بالعمر والوزن، لا بالقلب والعقل. 

(وآثارُنا على رمال الزمان بعضها آثار نفوسٍ كبار، وبعضها آثار أقدام).

لا شيء أعدل من الزمن، ولا مكان أوسع منه.. إنه غربال واسع الثقوب  يُسقط الأقزام من حساباته، ويُبقي على العمالقة.

يرفع الكريم ويزيده شرفاً، ويكشف عن اللئيم ويزيده نَبذاً وابتعاداً عن الآخرين، يسحب الغطاء عن اللصوص، ويزيل الأقنعة عن الخونة والمنافقين، يُحيي الأحرار ويُميت العبيد، ويأخذ حق المظلوم ولو بعد حين.

 (يسمع ويرى ويتكلّم، ويُشفي ما يعجز العقل عن شفائه، يأتي بجروح.. ويُضمّد جروح.. يكشف ما خَفيَ ويُغطي ما ظهر..).

بمرور الزمن.. قد تنثني السواعد لكنها لا تنكسر، وقد ينحني الشجر ولا يموت، وينطوي الفولاذ لكنه لا ينقطع، وقد تطأطأ الجباه للظالمين، لكن القلوب تبقى مرفوعة، شامخة وواقفة ومنتصبة خلف قضبان العظم والحديد. بمرور الزمن قد نجد الأبطال يركضون مع الراكضين، لكن هذا لا يعني أبداً موافقتهم على شروط اللّعب والسّباق، فرفقة الكبار للصّغار  لا تجعل في أحيانٍ كثيرة الصغار كباراً!

بمرور الزمن قد تكبر النّعاج وتسمن الأرانب، إنّما تفكيرها سيبقى محصوراً بأكل التبن والحشيش، وقلوبها ستظل مشغولة بالرّعب والفزع من الثعالب والذئاب.

بمرور الزمن.. تحمل الجمال والحمير الذهب والياقوت، وكل شيء غالٍ وثقيل، ولكن بالمقابل لن يثقل عقلها ويزيد ثقافة وفكراً بما تحمله.

بمرور الزمن.. لا يبقى العطر طويلاً فوق الأصابع المعتادة على الأذى والطّعن في الخفاء، وبمرور الزمن لن تصطاد الفخاخ المنصوبة عند المزابل سوى رواد المزابل ومُحبّي جمع العلب الفارغة وأكياس النايلون المهترئة.

إن العتمة لا تخشى شيئاً أكثر من خشيتها وفزعها ورعبها من أن يأتي زمنٌ مضيء يفضحها ويهتك ويكشف كلّ سرٍّ كانت تُخفيه وتخبئه خلفها، وتحميه برطوبتها المزمنة وظلمتها الدّاكنة.

    بمرور الزمن.. قد يعتقد البعض أن نتف الريش كسلخ الجلد، وأكل الحصرم كأكل العنب، وصيد الغزلان كجمع السلاحف، وقلع الضرس كقلع الأظافر، وذهاب الشرف كذهاب المال!  وشتان بين هذا وذاك.

   قالوا: مَن سلبني مالي، فقد سلبني حُطاماً، ولكن مَن سلبني زمني وشرفي فقد سلبني أعزّ ما أملِكُ!

العدد 1105 - 01/5/2024