شتاءات الزمن الجميل

هذه الأيام الشتوية الباردة نسبياً من شهري كانون الأول وكانون الثاني تحملني بشكل لا شعوري إلى أيام الشتاء القاسية في أريافنا النائية البعيدة قرانا الممعنة في النقاء والبراءة والعفوية. فشتاء الأرياف يختلف عن شتاء المدن، فكم من مساءات تمرّ تحدّث فيها أولادي عن تلك الشتاءات، ويحزنني أنهم لم ولن يعيشوا أجواءها الحقيقية التي تعكس رهبة هذا الفصل العظيم وهيبته، ففي بيوتاتنا المغلقة في هذه المدينة الواحة _ حلب لا نشعر ولا يشعر الأبناء بجماليات وعذوبة أصوات المطر الغزير الذي كان يطرق على أبوابنا، نوافذنا، سطوح البيوت، وإن كانت طينية فلها إيقاعها الممعن في الحنان والحميمية، رغم قساوتها.. أصوات (المزاريب) الممتلئة التي مازالت تعشش في مسمعي مع أصوات الرياح الشديدة.. العواصف القالعة التي كم من مرة كسرت واقتلعت أشجارنا، أو منظر الغمام الجميل الذي كم لفّ تلالنا لترتسم أمامنا لوحات ولا أجمل، لوحات خصنا الله بها، أو نصاعة بياض الثلج الذي يشابه قلوب أبناء وطني وحسب.

شتاءات كانت تعمّر في قلبي جدران صومعة أبدية.. ومئذنة مازالت حجارتها تلمع في روحي، وناقوساً يقرع مع نبضات قلبي.. نعم، شتاءات تلك الأيام.

فقبل أكثر من ثلاثين عاماً كان آنذاك شتاء حقيقياً، إذ كانت السماء حين تمطر، تمطر بحق لدرجة تشكل السيول الجارفة هنا وهناك، لدرجة أنّى ضربت عصاك تخرج المياه وهذا ليس بدعة أو حكاية من خيال، بل حقيقة عاشتها قرانا لزمن طويل، فكم من ليالي صحونا على صيحات الأمهات أَنْ طوفاناً أصاب قريتنا، وأن بيت أبو إبراهيم راح بالطوفان، أو بيت أبو موسى محمود الرنجوس، بعد امتلاء ( الشقة) أي خط الري الممتد من العاصي لإرواء الأراضي الزراعية و( القوقية ) أي العبّارة بعد وصول السيل الجارف (من قبلي الشقة)ليمارس سحب كل ما يقف أمامه، فكم من عائلة أخذ السيل ما جمّعته السنون، وكم من أخرى كاد الطوفان يذهب ببيتهم لأنه في مسرى السيل.

شتاء تلك الأيام.. شتاء الحكايا والسهر الطويل تحت الغطاء لتوفير الشيء البسيط من المازوت.. شتاء السوالف والحكايا، حكايا الجدّات والأمهات حكايا الزير، والشاطر حسن، و العصفور الأخضراني، تلك الحكايا التي كنّا نحياها بكل واقعيتها وفنتازيتها!.. نتفاعل بها ومعها.. نبكي لبكاء البطل ونفرح لفرحه، نستعدّ للقتال كاستعداده وننكسّر كانكساره أمام المعجزات.

شتاءُ المجالسِ.. مجالس الرجال وأحاديثهم المتكررة في كل سهرة وكل بيتْ، حول الزراعة والفلاحة وكيفية حماية المنازل من احتمال سيل جارف قادم، إضافة إلى لعب الورق (الباصرة، الختيار، الاستعمار.. إلخ) من ألعاب كنّا نتجمع لممارستها ومشاهدتها وغالباً ما كنت المشاهد وحسب، وإن تسنى لي اللعب فحكماً من الخاسرين لامناص…بعد الانتهاء من واجباتنا المدرسية وفي هذا يطول الحديث.

بعد كل هذا كنا نخلد للنوم مبكراً، فمنّا من ينام. ومنّا من يساهر رقصات القنديل أو الكاز المرفوع إلى الحائط.. الرقصات المترامية على الجدران بأحجام وأشكال مخيفة ومرعبة وغريبة.. كنتُ أنّى تقلبت تتراءى لي أشكال وحوش مرعبة. أجلس، أنظر إلى وجوه مَنْ حولي.. الكلّ نيام، فأدسّ رأسي تحت الغطاء ليسرقه النوم.. فيفشل، أبقى مرهوناً للخوف إلى أن أعجز… وأغفووووو.

شتاء الحب الشديد والحزن الشديد والخوف والبرد والفقر الشديد.. شتاء انقطاع الوقود من كاز ومازوت.. فالغاز لَمْ يكن منتشراً عندنا آنذاك. على بابور الكاز كان الطبخ ونستعمله مدفأة من جهة ثانية عند انقطاع المازوت.

كنت وأخي الذي يكبرني بعام واحد فقط نذهب لإحضار المازوت… نأخذ (التنكة) ونمضي مشياً على الأقدام أكثر من 5 كم.. قلما يحالفنا الحظ ونعود بسرعة غانمين، وغالباً ما كنا نقف في طابور يمتد طويلاً في ساحات البرد الشديد. وعندما نملأ (التنكة) بالمازوت نضع في قبضتها العصا ونحملها، كلّ من جهة ونمضي عائدين، نتوقف بين فينة وأخرى إما لتبادل المواضع وإما للعودة لإحضار فردة حذاء وقعت من قدم أحدنا.. وحين وصولنا أنا وأخي إلى البيت كنا نُستقبل بالسباب والشتائم وحيناً بالضرب _الذي ألفناه _ إما لتأخرنا أو بسبب اندلاق بعض المازوت من (التنكة) بشكل لا إرادي..

أعود بذاكرتي إلى تلك الأيام القاسية التي كنا نحياها بأقدام عارية وأجساد لا يسترها سوى ما تيسر لنا من أثواب أشقاء ضاقت عليهم وصارت لنا.. الأيام التي رغم كل هذا وذاك كنا نحياها بحب وود واحترام وامتنان للرازق الكريم.

العدد 1105 - 01/5/2024