طفولة الليل والأرصفة

أجل! إنها طفولة الليل والأرصفة، طفولة البرد وزمهرير الليالي السوداء القاتمة، والأشد سواداً من فحم المواقد الذي يصبح فحم اللذة والمتعة لعشاق (الأراكيل) المترفين، الذين لا يفصلهم عن طفولة (علب الكرتون) سوى مسافة الجرح، التي لا تفصل بين هؤلاء وهؤلاء، إلا بالمقدار الذي انفصل به المواطن عن الوطن والمواطنة، في لحظة يأس من الأشياء جميعها، وهو يمر بأولئك الأطفال البائسين الكافرين بالحياة، وما حولهم من مترفات لا يجيدون سوى التطلع إليها بحسرة المحرومين، وركلها بأحذيتهم الممزقة العاتبة الذاهبة لصخب الثلج والبرد، وهي لا تعير اهتمامها مطلقاً للعابرين هوامش الحياة، وهم يعيرون تلك الطفولة نصف التفاتة حزن وأسى، ثم يكملون مشاوير متعهم ولذائذهم، دون نصف التفاتة أخرى، إلى الوجع الدامي الذي تعصف رياحه السوداء بالوطن والتراب، وهوية وانتماء ذاهبين إلى حيث التفكير بهما أصبح بحاجة إلى إعادة الاعتبار لمسميات أصبح الأطفال، على الأقل، يشكون بها، وهذا هو الأخطر، على أنها مسميات لا تليق إلا بواضعيها، حيث وضعوها، ثم غادروها إلى تلك المتع المجنونة العابرة، حين ثقافة المقاهي والأراكيل، وعبث الحياة الفارغة صارت من مقومات عصر الجنون الذي نعيش فيه، ويدفعنا إلى حيث الجحيم والهاوية، وتلك الفوارق الغاشمة التي تقوم حتى داخل أفراد البيت الواحد، والأسرة الواحدة، فإذا بنا، في لحظة غاشمة مارقة، نرتد على أعقابنا، مغلوبين، مقهورين، ناقمين على الحياة، والتاريخ، والعصر، وموبقاته الآثمة الملطخة بالدم والعار والكارثة!

في  لحظة قاتمة السواد والعتمة، غاصّة بمجهولها المرعب، يقف المرء على مشاهد أشبه بخوارق المستحيل، هل حقاً نعيش ما نعيشه الآن؟ ونحن بوعينا الغائب، ومدركاتنا القاصرة، لا نستطيع فعل شيء، لأننا في اللحظة القاتمة الغاشمة، صار الواحد منا منفصلاً عن مجتمعه، وعما حوله، ومنفصلاً عن ذاته بعشرات الشخصيات الكرتونية الممزقة العابرة من جنون تفاصيلها إلى جنون مجهولها، وهي تعيش محنها الوطنية ببلاهة المشدوهين، ومحنة الموجوعين، وضراوة صمت يعبث بالرجال والأفكار، دون القدرة على فعل شيء، أو عمل ما، يعيد صياغة الواقع المجنون الراهن، بما يبشر بآت قريب أفضل، ويشير إلى زوال المحنة عاجلاً لا آجلاً، ولكن الأشياء جميعها تؤكد أن الجراح صارت أعمق نزفاً، والكارثة أحدّ مرارة، والآتي أعتى انكساراً، والذاهبون ذاهبون إلى حيث المجهول والكارثة، والأرصفة وعلب الكرتون والليل: هم حدائق الطفولة الجديدة بدل الحدائق الحقيقية؟! أما نحن، فإننا ماضون، وذاهبون، ولكن الخوف كل الخوف على الطفولة القادمة من راهنها المرعب المريب، ومستقبلها الغامض المجهول، ومن علب الليل والأرصفة، طفولة خائبة، حائرة، ضائعة، غابت عنها المسميات الوطنية كلها، لأنها مسميات عابرة هشة لم تؤمِّن أبداً أقل مستلزمات الحياة لطفولة ضاقت بالوطن، وضاق عليها الوطن، وراحت تنظر إلى حالها وإلينا، وهي تسخر منا ببسمة ودمعة لا تحملان سوى غصة بالأشياء والأوطان، والقيم، والأرض، والأحداث، والناس، لأنها استيقظت على راهن تاريخي مفزع بدل أن تكون فيه: طفولة الورد والياسمين، والزيزفون، إذا بها طفولة الليل، والبرد، والمجهول، والأرصفة! والزوايا المنكسرة على حزنها و؟

العدد 1104 - 24/4/2024