الحزب بكلمات.. في ذكرى غياب فرج

كان ماركس يقول: (الإنسان مجموعة علاقات اجتماعية)، وبمعنى آخر، يستمد المرء مكانته من خلال الناس ويرى نفسه بمرآتهم. وتتناوب الإنسان غريزةُ الحياة وغريزة الموت، ويخضع بصورة مطلقة لهذا القانون الأزلي، كما كتب سيغموند فرويد، فيغمر الفرح المحيطين بالإنسان عند الولادة ويجلّلهم الأسى لدى رحيله، وتنبعث ذكريات الذين صاحبوه وعرفوا بعضاً من جوانب حياته، إذ لا يبقى من المرء سوى الأحاديث والذكر.

تعرفت الرفيق فرج الله موصلي الذي غيّبه الموت في 18/2/ 2014 وذلك بعد المؤتمر السادس لحزبنا عام 1987 الذي عبّر عن إرادة حقيقية، ورغبة عارمة في بعث روح تجديدية ورسم نهج جديد يرقى بالحزب، ويحرّره من أثقال الماضي، ويصحح مسيرته التي تعرضت في ظل غياب الديمقراطية الحزبية، وطغيان الفردية، إلى أخطاء جسام، تمثلت في عدم صيانة وحدة الحزب، وإقصاء خيرة مناضليه أو معاقبتهم، وقد تجلت إرادة التجديد في أبرز القرارات والنداءات الصادرة عن المؤتمر. فقد جاء في الدعوة لوحدة الشيوعيين السوريين ما يلي (إن الانقسامات المؤلمة والمتتالية قد أصابت الحزب بأفدح الأضرار السياسية والتنظيمية، وأضعفت قدرته على النضال، وأدت إلى تخلي قسم من قواعده عن النشاط، وتركت نوعاً من خيبة الأمل لدى جماهير الحزب وأصدقائه التي علقت الآمال على الحزب بوصفة قوة تقدمية مؤثرة في حياة بلادنا).

ولعل من قرارات المؤتمر الهامة سحب الوثيقة المعروفة باسم (رسالة سالم) والمتعلقة بالرفيق فرج الله الحلو، واعتبر المؤتمر تلك الوثيقة التي فرُضت عليه كتابتها تتنافى مع التاريخ النضالي المشرف لهذا القائد العظيم، الذي ختمه بالتضحية بحياته من أجل الدفاع عن الحزب. وكذلك قرار بإلغاء فصل الرفيق رشاد عيسى الصادر عام 1950.وقد دعي الرفيق رشاد الذي اشتعل الشيب في رأسه إلى حضور المؤتمر، وألقى على مسمع المندوبين كلمة في غاية الأهمية. وألغى المؤتمر قرار فصل نجاة قصاب حسن. وقرارات الفصل الصادرة عن المؤتمر الرابع المتعلقة بالرفاق بدر الطويل وواصل فيصل وميشيل عيسى ويوسف نمر ونبيه جلاحج وجرجس عيسى، وقد حضر هؤلاء جميعاً المؤتمر السادس أعضاء أصلاء بعد أول خطوة توحيدية أوقفت مسلسل الانقسامات البغيض. ولعل مندوبي المؤتمر يتذكرون الكلمة البديعة والمؤثرة التي ألقاها الرفيق بدر الطويل أمامهم، والتي عكست مرارة الانقسام، وخطورة العقل التصفوي الذي يستخف بإخلاص الرفاق للحزب وشغفهم بالنضال في صفوفه، وإيمانهم بضرورة قول الحقيقة وتحمّل تبعاتها،وكانت تلك الكلمة التي دعا فيها بدر إلى الحرص على الرفاق وتعميق ثقافة الحوار والعمل الجماعي كأنها خطبة وداع، فقد رحل بدر بعد المؤتمر بفترة وجيزة. قرر المؤتمر أيضاً إلغاء قرار الفصل الصادر عن المؤتمر الخامس بحق الرفيق مراد يوسف ورفاقه الذين شارك بعضهم ضيوفاً على المؤتمر. ومهدوا بذلك الطريق لخطوة التوحيد الهامة التي جرت في المؤتمر السابع للحزب.

انتخب المؤتمر السادس هيئات الحزب القيادية، بينها لجنة المراقبة، وكان فرج الله موصلي عضواً في هذه اللجنة وفيها تعرفت عليه، وترأس الرفيق رأفت كردي هذه اللجنة، وكان يحسن الإصغاء للرفاق ويجيد الحوار ويأخذ بالرأي الصائب الذي ينتهي إليه النقاش. ومنذ البداية كنا جميعاً نريد لهذه اللجنة أن تلبي نزوعنا للتجديد، وأن تكون نموذجاً لهيئة تقوم بدورها على أحسن وجه، وكنا على يقين بأننا نستطيع ذلك، ولعلنا كنا مغالين بعض المغالاة في مثاليتنا وفي قدرتنا على تحقيق طموحاتنا، ومع ذلك فقد اجتهدنا وكثرت اقتراحاتنا، منها: أن يحضر مكتب لجنة المراقبة اجتماعات اللجنة المركزية، وأن يحضر رئيس اللجنة اجتماعات المكتب السياسي، وقد نال كلا الاقتراحين الموافقة، وجرى تطبيق هذه الخطوة الجديدة في العمل، ورافقها بعض التوجس الذي يترافق عادة مع كل خطوة جديدة مهما كانت متواضعة، وضعت لجنة المراقبة خطة عمل تضمنت فيما تضمنت زيارة المنظمات، وكنا نحرص في هذه الزيارات على معرفة الصعوبات الحقيقية التي تواجه منظماتنا، ونبحث مع الرفاق سبل النهوض بالعمل، ولم يصعب علينا حل بعض المشكلات التي تنشأ في مجرى العمل بشكل مرْضٍ. وكان الرفيق فرج يشارك في هذه النشاطات بكل حيوية وبكل حماسة، كيف لا؟ وكنا يومها نفيض عزماً وشباباً، وثمة وقائع في عملنا آنذاك تشير بوضوح إلى أهمية القدرة على الابتكار والتطلع باستمرار نحو الأحسن، لقد كنا شهوداً على بعض التطور في عمل اللجنة المركزية، ولكن الجديد كان يشق طريقه بصعوبة،ويواجه بقوة الاعتياد والتمسك بتقاليد العمل المألوفة، وكان الرفيق رأفت يضعنا بصورة العمل في المكتب السياسي، وهناك أيضاً كان يسود الاجتماعات الحالة ذاتها. كنا نرى أن القديم لا يلبي طموحاتنا، غير أن الطموح إلى التغيير، والتطلع إلى الجديد كان يتردد صداه في جميع المنظمات، دون أن يتوّج بنجاحات ملموسة،ويعود ذلك لأسباب ذاتية وموضوعية، كنا بأمسّ الحاجة إلى المضي قدماً في التجديد على عل الصّعُد: السياسي والفكري والتنظيمي، بحيث تكون السياسة سياسة مبادئ، لا سياسة شعارات، وبحيث يقترن القول بالفعل، وبحيث نحسن الاستناد إلى الفكر الجدلي في تحليل الأحداث، وكنا نؤمن بأن الجدلية الماركسية اللينينية صحيحة من حيث الجوهر، ولكن تطبيقاتها تحتاج إلى جهد، وإلى إغناء، بحيث ترد إلى الوقائع وتؤخذ كأمر نسبي وفق الزمان والمكان والظروف، وبحيث يتجلى فيها التحليل الطبقي الملموس لواقع ملموس، نعتقد أيضاً بأن أساليب العمل تتطلب الجرأة في التطوير المستمر لها دونما تردد أو ارتهان لطقوس القديم. وكانت الشيوعية بالنسبة لنا هي النزوع الثوري الدائم لتحطيم قيود الاستغلال، ودكّ عروش الاستبداد، وتحقيق العدالة الاجتماعية المتمثلة بحق العمل للجميع وإعطاء كل إنسان حسب جهده،وإقامة مجتمع المساواة والحرية مجتمع التقدم والاشتراكية.

لقد استحوذ على اهتمامنا بصورة رئيسية ممارسة الديمقراطية الداخلية، وتبين لنا أن ثمة علاقة جدلية بين الديمقراطية داخل الحزب وخارجه، إذ كان صعباً إن لم نقل مستحيلاً أن يعمل الحزب بصورة ديمقراطية كما يصبو، في ظروف غير ديمقراطية، وكان يصعب على الشيوعيين أن يضعوا آراءهم بكل حرية خارج حزبهم وداخله.

سبع وعشرون عاماً مرت على انعقاد المؤتمر السادس للحزب، وقد رحل رفاق كثيرون ممن شاركوا في أعماله آخرهم الرفيق فرج، ومن ذلك الزمن حتى اليوم مرت تحت الجسر مياه كثيرة، ومشى الحزب بطريق متعرجة وشائكة، ولم تصل معركة التجديد فيه إلى غايتها المرجوة، وظل الحزب ومازال يواجه تحديات تتعاظم ليقع على كاهله المزيد من الأعباء، وليتناهب أعضاء الحزب ويشغل عقولهم وقلوبهم التباين الصارخ بين ما طمحوا إليه وما حققوه ، بين الرغبة والإمكانية، بين الواقعية السياسية والأحلام، بين امتلاك خاصة التغيير والخضوع لقوة التقليد العاتية، بين الروح الكفاحية والبيروقراطية المقيتة، بين ضرورة وحدة الشيوعيين وتحدي الانقسام، بين أهمية اتساع جماهيرية الحزب وانحسار نفوذه وضعف قاعدته، وبصورة خاصة بين العمال والفلاحين والمثقفين والكادحين عموماً. ومن المعروف أن قوة تأثير أي حزب في مجرى أحداث بلاده، وخاصة في الأزمان الصعبة وسنوات الشدة والحرب المدمرة كالتي نعيشها اليوم، تتعلق قبل كل حساب بوزنه في عداد موازين القوى، وقدرته على الفعل، واتخاذ المواقف الصائبة والشجاعة، فرغم أهمية الشعارات والبرامج والأهداف، فالكلمة الأخيرة تتعلق بالبشر الذين يسيرون خلف الحزب في ظل هذه الشعارات، ولديهم الإرادة والعزم على تنفيذ برامجه، ويتملكهم الاستعداد للتضحية بالغالي والنفيس لتحقيق أهدافهم، وإنقاذ حزبهم، وشعبهم، ووطنهم.

العدد 1104 - 24/4/2024