احذروا ولادة «الزمن الجميل»!

كل جيل من الأجيال يعتبر أنه يعيش بعصر انحطاط أخلاقي وعصر اندثار للقيم والمبادئ، ويعتبر أنه كان يعيش بشبابه بالزمن الجميل، ويشعر أفراد الجيل بحنين دائم إلى تلك الأيام التي تصبح موضوع الأحاديث وجلسات الاستذكار والحنين.. والزمن الجميل هو زمن مرتبط بجيل معين، ويولد في عقول أبناء هذا الجيل بعمر الثلاثين، وبيقى حبيس جدران الذاكرة، لأن المجتمع يكون قد وصل إلى مرحلة اللاعودة بالنسبة للأمور التي تغيرت، سواء منها الاجتماعية أم الاقتصادية أو حتى السياسية.

ومن النافل القول إن ذلك الزمن الذي يصطبغ بصبغة عاطفية لدى الناس البسطاء هو مختلف عما يمكن أن يعتبره المثقفون والمفكرون اليوتوبيا المنشودة، وهذا الاختلاف يتمثل بالمعايير التي تحدد أفضلية كل حقبة على غيرها من جهة، وبالمحاولات الحثيثة التي يبذلها المثقفون لإعادة بعث تلك الأزمنة بطريقة تتماشى مع التغييرات الراهنة. لكن ما يجري في سورية اليوم هو ولادة لزمن جميل لا ينتمي لسلالة الأزمنة الجميلة الآنفة الذكر، فهو يجمع كل الأجيال، كبيرها وصغيرها، وعمره فقط ثلاث سنوات.. أي أنه لم يكتمل بعد في عقول الناس مما يهدد بولادته مشوهاً.. والمقصود هنا هو زمن ما قبل الأزمة (باستعارة التعبير الشعبي الذي يتجاهل وجود (أزمنة) ما قبل الأزمة)، فقد كانت الأسعار معقولة والأمان يعمّ المدن السورية والتعايش بأعلى مستوياته، وذلك برأي شريحة كبيرة من الشعب السوري، الذي بدأ يسمي ذاك الزمن بزمان الخير، وبدأ يعبر عن حنينه إلى تلك الأيام في كل مرة يتجول فيها في الأسواق، وفي كل مرة يجفل فيها من صوت انفجار أو إطلاق نار.. ومن الواضح أن هذا الزمن الجميل الذي يتشكل حالياً في عقول السوريين ويزداد جمالاً بنظرهم هو ظاهرة غير صحية للأسباب التالية:

يتم إضفاء صفة الجمال على تلك الأيام بناءً على اعتبارات تتعلق بمتطلبات الحياة الأساسية من طعام وسكن وعيش آمن، وبالتالي فإن تحقيق هذه الشروط سيوقف تفكير الناس ويحقق لهم الاكتفاء المعيشي فقط، ويمنعهم من المطالبة بما هو أبعد من ذلك، مثل المشاركة في الحياة السياسية والدعوة لإحداث تغيير في بنية مؤسسات الدولة، خاصة التعليمية منها والقضائية، بل قد يكون هناك رفض للأصوات المطالبة بالتغيير والإصلاح.

نمط التفكير هذا يحول دون البحث والتمحيص بأخطاء الفترة السابقة التي كانت مقدمة للانقسام الذي حصل في المجتمع السوري. ففي غمرة الأحداث الدموية والمصائب الاقتصادية الصغيرة التي تصيب الأسرة السورية، يصبح التفكير عاجزاً عن النظر بعين النقد إلى ما قبل الأزمة، بل تتحول تلك الحقبة إلى الفردوس المفقود، وعندئذ سيتناسى الجميع أن (جمال) تلك الحقبة هو ما أفرز قباحة الأزمة الحالية، وأن لا شيء يولد من العدم، وسبب هذا التجاهل هو ترتيب الأوّليات بالنسبة للإنسان العادي، التي خسر أهمها خلال السنوات الأخيرة.

بما أن غالبية المثقفين لديهم نظرة مغايرة بخصوص (جمال) فترة ما قبل الأزمة، فإن ميل الرأي العام نحو تكرار التجربة السابقة يظهر غياب المثقفين وانكفاءهم وتخليهم عن دورهم في قيادة المجتمع بالاتجاه التنموي الصحيح. وفي هذه الأوقات التي تشهد تشكل رأي عام مشوه نوعاً ما، يكون دور المثقف بالتصحيح والتصويب دوراً قيادياً وليس رديفاً، ولا يسمح بأي انكفاء للكتاب والفنانين، بذريعة أن الساحة هي الآن للجيوش والأسلحة وليست للنخب المفكرة، فهذا الكلام ليس سوى تهرب من المسؤولية تفرضه صعوبة المهمة المطلوب تأديتها.

في غمرة المناظرات التي تدور بين الذين يكنون حباً أعمى لفترة ما قبل الأزمنة، وأولئك الذين يدفعهم حقد أعمى لتحميل أشخاص محددين كامل المسؤولية عن الأزمة، لا يكون الحل بدخول العقلاء وذوي البصيرة بحالة من العمى الاختياري وترك الأمور على عواهنها، فقد تصبح ميالة إلى تكرار التجارب السيئة ذاتها مع ترحيب شعبي.

العدد 1105 - 01/5/2024