المجتمع التقريبي

في إحدى زوايا المتحف الوطني بدمشق يقبع لوح حجري مربع تظهر عليه أخاديد صغيرة تشكل عدة صفوف منتظمة، وتخبرنا البطاقة التي بجانب اللوح أنه كان يستخدم للعد، وأنه الأقدم في العالم، وأنه يظهر أولى الطرق التي استخدمها الإنسان للعدّ بعد أن شعر بحاجته إليها، وهو ما دفعه فيما بعد إلى اكتشاف الأرقام وتركها تأخذ دورها بتنظيم الحياة العامة للأفراد والدولة على حد سواء، وهذا الدور بدأ يصبح أكثر محورية مع ارتقاء الحضارات وتطورها، وما زالت الأرقام حتى هذه اللحظة هي معيار التحضر.. فكلما كان الإنسان دقيقاً بتعامله معها كان أكثر رقياً وأكثر ابتعاداً عن الغوغائية والعشوائية بالتعامل، لذلك نرى أن الإنسان الأوربي يميل إلى أن يكون دقيقاً في كافة تحركاته، بدءاً بالمدة المخصصة للتمارين الرياضية وانتهاء بالمبلغ الواجب تركه (بقشيش) في المطعم.

لكن يبدو أن لمجتمعنا رأياً مغايراً بهذا الخصوص، فهو يميل إلى التحرر من سطوة الأرقام لئلا يكلف نفسه ما لا طاقة لها به، فهو يفضل بدلاً من ذلك إضفاء لمسته الشخصية على الرقم ليزيده أو ينقصه بحسب الحاجة، والأمثلة على ذلك تعجز الأرقام عن إحصائها، فإذا نزلنا إلى الشارع نرى أن السيارات التي تقف بنفاد صبر خلف الإشارة الضوئية لا تلتزم بالعداد التنازلي بدقة، وهنا يترك للسائق تحديد لحظة الانطلاق التي قد تكون قبل ثانية أو ثانيتين من نقطة الصفر، وإذا دخلنا إلى إحدى سيارات الأجرة سنسمع جدالاً بدأ يصبح اعتيادياً حول الأجرة بين السائق والركاب، وهو جدال يتجاهل وجود عداد مركب في مكان ما بين الطرفين المتجادلين، وهو يقيس الأجرة حتى الكسور العشرية لكنه لم يكن يوماً شريعة المتعاقدين. ثم سنترك السيارات والسائقين ونتجه صوب المحال التجارية التي تشهد كل يوم جولات من التفاوض بين التاجر والزبون، تستخدم فيها شتى أدوات التفاوض من لغة الجسد ونبرة الصوت وتقنيات الشد والجذب للوصول إلى سعر يرضي الطرفين، وهو سعر بعيد كل البعد عن السعر المطبوع على السلعة، والذي كان يفترض فيه تنظيم أمور البيع والشراء. أما ثالثة الأثافي والبلية التي لا يبدو أن هناك  أملاً بالتخلص منها، فهي الالتزام بالوقت واحترام المواعيد، وهو أمر من السهل تصنيف المجتمعات حضارياً بحسب تقيدها به.  فنحن نرى على سبيل المثال أن التأخير لمدة خمس دقائق في الدول المتحضرة يستوجب اعتذاراً من الشخص المتأخر، أما في مجتمعنا فيكون التأخير نحو أضعاف أضعاف هذه المدة، ثم تتلوه تمتمة بسيطة بما يشبه الاعتذار، ومن المضحك أن المواعيد التي يتفق عليها لا تكون ملزمة للطرفين الذين يترك لهما التعامل مع الوقت بشكل تقريبي، هذا إذا لم يكن الموعد تقريبياً بحد ذاته، كأن يقال: (لنلتق بين الساعة الثامنة والثامنة إلا ربعاً) أو بعد ربع أو نصف ساعة، وغيرها من تقنيات التقريب، وهناك أمثلة أخرى كافية لملء قراطيس عدة، فهل يمكننا الدخول إلى عالم المجتمعات المتحضرة بهذه العقلية؟ ألا يمكننا القول إن المجتمعات التقريبية لن تقترب من التقدم إلا بشكل تقريبي؟!

العدد 1105 - 01/5/2024