السخرية في الزمن الساخر

في زمن الألم والحزن والنوم بصمت تحت خيمة الفواجع، لا بدَّ أن يحتل الأدب الساخر مكانة هامة، كي يبدد قليلاً من هموم المواطنين السوريين، ويزيل بعضاً من المطر الوحلي. وعلى الأديب ألاَّ يجلس على قمة الجبل ويكتفي بمراقبة ما يجري في ساحات الوطن، ويجمع صور الموت والجوع والمظاهر المقرفة للقتلة الإرهابيين، بل عليه أن يكون بين الناس يشاركهم آلامهم وأحزانهم.

الكتابة الساخرة تشكل الحد الفاصل بين الفرح والحزن، وبين التشاؤل والتشاؤم، تطرد الأحزان من القلوب المكلومة. وهي عبارة عن حقنة من السعادة تفتح شرايين البائس أو اليائس، فيتدفق الأمل المحمول على جناح الحلم الذي يمكن أن يطير به إلى عالم آخر ولو بشكل مؤقَّت!

الكتابة الساخرة ليست حصيرة مزركشة يفرشها الكاتب الساخر على أرض الواقع، ويدعو فقراء الفرح والابتسامات المشظاة للجلوس عليها، ويقدم لهم القهوة والشراب فقط، بل يجب أن يعلم كل من يجلس على هذه الحصيرة، أنها تشكل قوس قزح متعدد الألوان، وكل لون يعبّر عن فرح ورديّ. ويشكل قوس الألوان سداً يحجز خلفه أطناناً من الأحزان والآلام.

قدَّمت الأزمة السورية، رغم كل ما يجري من أنهار الدماء، الكثير من (الحسنات). وكانت وصفة طبية دون أية تكلفة مادية.. ودون تسجيل قائمة بالمحظورات من المأكولات (الكوليستورية).. ووفرت أيضاً على المواطنين من الناحية المالية التسجيل في الأندية الرياضية،فبدأ المواطنون يمارسون السير على أقدامهم ساعات طويلة، وتزدحم شوارع المدينة بالبشر من جميع الأعمار والأجيال،وتشبه الهنود وهم يخرجون ليلاً من السينما. وقللت أيضاً هذه الرياضة من زيارة عيادات الأطباء المتخصصين بالقلوب والهموم والأعصاب، وساعدت المعد الخاوية على هضم الأطعمة (الناعمة)، ووفرت النقود لشراء البطاطا التي نصّبها بعض التجار (الغيورين) على صحة المواطنين وجيوبهم أميرة في سوق الخضار .

الكتابة الساخرة تطرح السموم من مسامات القلوب، وتمنع براعم الغمّ والهمّ من النمو على أغصان السعادة.. وتجعلنا نعبّر بصدق وصراحة عمَّا يتجمَّع في قلوبنا من هموم، وتدفعنا لردم سواقي المياه الملوثة، وعدم تشكل المستنقعات الآسنة في دواخلنا. وبقدر ما يمتلك الأديب الحرية في التعبير عن هموم الآخرين، يكون فاعلاً في المجتمع ومؤثراً وصادقاً. وقد أودت الكتابة الساخرة في أحايين كثيرة بكتابها في (الماضي والحاضر) إلى غياهب السجون والمعتقلات، لأن طريق الحرية كان ممراً ضيقاً ولم يعبّد طوال قرون.ولم يقدر أحد أن يعرّضه ويقيم الأرصفة الخاصة بالمشاة عليه، ولو شبراً واحداً في ظل نظام عربي استبدادي فاسد!

وحول ذلك قال الأديب الراحل محمد دكروب: (حين كان يكتب طه حسين عن أصدقائه أو كتبهم، ولا يعجبه أمر ما، كان يسخر سخريات قوية وصادقة، وكان المسخور منه يتقبَّل الأمر.. اليوم صار من يجرؤ ويكتب سخرية أدبية يوضع في مصاف الأعداء). وأهم ما في الأدب الساخر هو ردم حفر التابوهات والمحرمات التي خنقت الأصوات الساخرة، ودفن فيها الكثيرون من الذين عبّروا بروح الفكاهة والسخرية الجادة عن هموم الناس ومآسيهم.. وحبّروا أقلامهم من دموع الجائعين والفقراء، وأزالوا الكثير من البقع السوداء الراسخة في ذاكراتهم.

ويصف (نيتشه) السخرية بأنها (البريق الإلهي، الذي يكتشف العالم في التباسه الأخلاقي، والإنسان في عجزه عن أن يحكم على الآخرين).

ويقول كونديرا: (إذا كان هناك من أمر يشرّفنا، فهو أننا طرحنا الجدّ جانباً، وحملنا محمل الجدّ الأشياء التافهة التي احتقرتها العهود السابقة ووضعتها في سلّة المهملات).

إن الأزمات التي تعصف بالمنطقة، تشكل دافعاً قوياً وفسحة لإنعاش الأدب الساخر، والتخفيف من آلام المواطنين وهمومهم.

العدد 1105 - 01/5/2024