المحبّة هي حجر الأساس في تربيتنا لأولادنا

يتحدّث أولادنا اليوم لغة قد لا نفهمها -نحن الكبار- جيّداً للوهلة الأولى، ولكن إذا بحثنا في فهم أطفالنا لما نقوله نحن، فسنكتشف بأننا نحن أيضاً لا نوصل أفكارنا بشكل صحيح وواضح لهم.

من بين جميع الأساليب الّتي قد تُسيء توصيل أفكارنا، هو عدم قدرتنا على التّعبير عن محبّتنا، لأننا لا نتحاور معهم بلغة المحبّة الّتي يفهمونها، بل نناقشهم بطريقتنا الخاصّة، فيها نوع من التّعالي والقسوة، الأمر الّذي يولّد مع الوقت فتوراً بالعلاقة بيننننا كآباء ومربين وبينهم كأطفال، وتزداد هذه الفجوة ويتسع الفراغ مع الوقت، وتظهر آثاره عندما ينطلق الطّفل إلى العالم الخارجي فيبدأ بالتمرد وبنشر الفوضى ويظهر قوته بمخالفته للقوانين، يبدأ بمخالفة القوانين داخل حجرة الصّف، ثُمّ تتوسع الدّائرة عندما يكبر ليخالف القوانين في عمله وفي الشّارع، كلّ ذلك لأنّ مستودعه العاطفي فارغ أو لم يعبّأ بالعبارات الصّحيحة والمواقف الإيجابية البعيدة عن الأنماط الرّوتينية الّتي مع الوقت تصبح سلبية، وتترك فراغاً واضحاً في شخصية الطّفل، يظهر عندما ينخرط في المجتمع الحقيقي خارج إطار الأسرة.

مما لا شكّ فيه أنّ جميع الآباء يحبّون أولادهم، ولكن هل التّعبير عن هذه المحبّة يظهر دائماً بشكلّ صحيح وواضح؟!

يعتمد كلّ شيء في تربية الأطفال على علاقة المحبّة بين الوالدين والطّفل، فالطّفل الّذي يشعر بمحبّة والديه ويتلقى الرّعاية الصّحيحة، هو الّذي سيكون مستقبلاً مواطناً صالحاً يتمتع بضميرٍ مهني صادق.

 يمتلك كلّ طفل مستودعاً عاطفياً، يمثّل مكاناً للقوّة العاطفية يمده بالمؤونة في الأيّام الصّعبة من فترة الطّفولة حتّى المراهقة والشّباب، فكما أنّ خزان الوقود في السّيّارة يمدّها بالطّاقة لكي تتمكن من الانطلاق والسّير، كذلك هو الأمر مع الأطفال، فعندما نعمل على ملء خزانهم العاطفي، فنحن بذلك نساعدهم لكي يمارسوا نشاطاتهم كما ينبغي، وندعمهم ليبذلوا قصارى جهدهم في دراساتهم ومستقبلاً في عملهم. ونحن مهمتنا كآباء ومربين أن نقوم بملء هذه الخزانات أو المستودعات بالمحبّة غير المشروطة، بالمحبّة العملية الّتي تُمكنّهم من النّموَ والسّلوك سلوكاً صحيحاً دائماً، يبقى السّؤال الّذي يطرحه كلّ أمّ وأب؛ كيف يشعر الطّفل بأنّه محبوب؟!

إنّ تربية أطفال أصحاء نفسياً في ظلّ الوضع الرّاهن الّذي يمرّ به الوطن، يعتبر مهمة في غاية الصّعوبة، فقد بتنا نجد في الشّوارع أطفالاً بعمر 8 سنوات يدخنون السيجارة أو النّرجيلة، وعندما يصبحون في سن المراهقة لن يترددوا في استعمال المخدرات، وأحداث العنف الدّائرة في العديد من المدن والقرى دفعت بالآباء إلى إبعاد أولادهم عن المدارس وبالتالي إبعادهم عن التّعليم. ولذلك نقترح هذه الأدوات الخمس الّتي تساهم في أن يبقى المستودع العاطفي لكلّ طفل ممتلئاً، فما هي هذه الأدوات؟!

1. اللّمس: لقد أكّد العديد من المختصين أنّ الأطفال الّذين يُعانّقون أو يُحضنون، تكون حياتهم أصحّ من الأطفال الّذين يُتركون لفترة طويلة من الوقت دون هذا اللّمس الرّقيق الّذي يُظهر اهتمام الكبار بهم.

لقد تراجع العديد من النّاس عن منح أطفالهم أشكالاً صحيحة من اللّمس اللّطيف خوفاً من الاعتداءات الجنسية، من المعروف أنّ بعض البالغين قد استغلوا الأزمة وانخرطوا في بعض التّصرفات الجنسية المشوّهة والفاحشة، ويجب محاكمة مثل هؤلاء المجرمين لينالوا عقاباً رادعاً، غير أنّنا يجب ألاّ ندع الخوف يحرمنا من التّواصل البسيط والصّحيح، لأنّ هذه اللّمسة البسيطة هي شكل من أشكال التّعبير عن المشاعر.

2. كلمات الثّناء: تحمل الكلمات قوّة هائلة في توصيل المحبّة، فكلمات التّعضيد والتّحبب والمدح والتّشجيع، والعبارات الّتي تمنح توجيهاً إيجابياً، كلّها تحمل معنى (أنا أهتم بك) وهذه الكلمات هي أشبه بكأس ماء بارد في حرّ النّهار، فهي تعمل على تغذية الإحساس الدّاخلي بالقيمة والأمان، فالطّفل يحصد فائدة كلمات التعضيد والثّناء مدى الحياة.

وعلى العكس فإنّ الكلمات القاسية، الّتي تأتي من إحباط عارض تُدمر تقييم الطّفل لذاته، وتُلقي ظلالاً من الشّك على قدراته، فالأطفال يعتقدون بأننا نعني كلّ كلمة نقولها، (فالموت والحياة في يدِ اللّسان).

3. الوقت القيّم: وهذه يعني أن تعطي طفلك انتباهاً مركّزاً غير مشتت، لأنّ هذا الوقت المخصص للطفل وحده يُشعره بأنّه أهم شخص في الوجود، وبالتّالي يشعر بأنّه محبوب بصدق، لأنّه يستأثر باهتمام والديه بالكامل. كما أنّ العامل الأكثر أهمية في الوقت القيّم هو أن تقوما بأعمال مشتركة أحدكما مع الآخر، تفتح من خلاله حواراً مفتوحاً مع طفلك، تتواصل فيه بعينيك تواصلاً حنوناً لطيفاً، فالنّظر في عين طفلك بحنان يُعتبر وسيلة قوّية لنقل المحبّة من القلب إلى القلب، وقد بيّنت الدّراسات أنّ معظم الآباء يستخدمون التّواصل بالعين استخداماً سلبياً، سواء أثناء توبيخ الطّفل أو عند إعطائه تعليمات محددة. يجب أن يكون معظم تواصلك العيني حنوناً ولطيفاً. فإذا نظرتَ إلى طفلك مثل هذه النّظرات فقط عندما يقوم بتصرف جيّد فأنت تسقط في فخّ المحبّة المشروطة، وهذا قد يدمّر النّموّ الشّخصيّ لطفلك. لذلك كي تحافظ على المستودع العاطفي لطفلك ممتلئاً دائماً يجب أن تمنحه كمية كافية من المحبّة غير المشروطة، والأسلوب الرّئيسي لذلك هو الاستخدام المناسب للتواصل بالعين.

هناك بعض الآباء الّذين يعاقبون طفلهم بعدم النّظر إليه في حال قام بتصرف خاطئ وهذه قمّة القسوة، إذ يُفسر الطّفل الابتعاد عنه بالتّواصل العينيّ على أنّه استنكار، وهذا تدمير إضافي لاحترامهم لأنفسهم. إذاً من الضّروري جداً ألاّ تربط إظهار محبّتك لطفلك بمدى إبهاجه لك في هذه اللّحظة، فرسالة الأمّ والأب هي إظهار محبتهما باستمرار، بغض النّظر عن تصرفات الطّفل، لأنّ هناك دائماً سبباً وراء سلوك الطّفل السّلبي.

4. تقديم الهدايا: يُعتبر إعطاء الهدايا وتقبلها بوصفها تعبيراً عن المحبّة ظاهرة عالمية، وكلمة هدية باللّغة الإنكليزية مشتقة من الكلمة اليونانية (Charis) الّتي تُترجم إلى نعمة أو هبة غير مستحقة، والفكرة الّتي تكمن من وراء ذلك، هي أنّه إذا كانت الهدية غير مستحقّة فهي مُقابل أو أجر، أمّا الهدية الحقيقية فلا تكون مقابل خدمات مُقدَّمة، بل هي تعبير عن المحبّة الحقيقية للفرد وتُعطى بلا مقابل من مقدِّمها. لكن مجتمعنا اليوم دخل في عالم الأعمال، حتّى العلاقات داخل الأسرة الواحدة أصبحت شبيهة بالصّفقات التّجارية، فالكثير من الهدايا الّتي يُقدمها الآباء هي كتسديد لخدمات أو سلوك قام به الطّفل، وهذه لا تُعتبر هديّة بل رشوة، وهي مدخل لسلوكه المستقبلي أثناء أدائه وظيفته، فمن اعتاد على تلقي الهديّة مقابل خدماته سيرفض مستقبلاً القيام بأيّ مهمة مهما كانت بسيطة دون أن يقبض سلفاً عليها.

فالأمّ الّتي تقدّم هدية لطفلها لأنه نظّف غرفته، لا تكون هديّة حقيقية، بل تكون مُقابلاً لخدمات مُقدمة، وحينما يَعد الوالدان طفلهما بقطعة من الحلوى إذا شاهد التّلفاز لمدّة نصف ساعة، فهذه ليست هديّة بل رشوة يُقصد من خلالها التّحكم بسلوك الطّفل، ورغم أنّ الطّفل لا يعرف كلمات مثل (رشوة أو مُقابل) إلاّ أنّه يُدرك معناها.

وهنا نُقدّم اقتراحاً يُساعد على تحويل الهديّة المعتادة إلى تعبير عن المحبّة. مثلاً عند شراء ثياب جديدة لطفلك اعتنِ بتغليف الزّي الجديد ثُمّ قدّمه حينما تجتمع العائلة حول المائدة وقت العشاء، فإنّ فضّ الهديّة يُحرّك مشاعر الطّفل وانفعالاته، ويمكنك أن توّضح أنّ كلّ هديّة سواء كانت ضروريّة أو ترفيهية، إنما هي تعبير عن محبتك، أيضاً سوف يُعلّمه هذا الاحتفال البسيط التّجاوب مع الآخرين الّذين يقدمون له الهدايا بشكلٍّ صحيح، فعندما تُعطيهم بسخاء توقع أن يتجاوبوا بسخاء (وهنا لا نقصد السّخاء المادي وإنما السّخاء العاطفي).

كما ننصح عندما ترغب بشراء هديّة لطفلك بأن تكون حكيماً في متجر اللّعب، لأنّ عدد اللّعب الكبير يُلزمك بالتّفكير جيّداً قبل انتقاء الهديّة، عاين اللّعبة عن قرب واسأل نفسك: ما الرّسالة الّتي تحملها هذه اللّعبة لطفلي؟ هل هذه الرّسالة ترضيني أنا كأمّ أو كأب؟ ما الّذي سيتعلّمه طفلي من هذه اللّعبة؟ هل تحمل في شكلها العام تأثيرات إيجابية أم سلبية؟ ما مدى متانتها؟ كم من الوقت يمكن أن تصمد؟ هل هي ذات جاذبية محدودة أم أن طفلي سيعاود اللّعب بها مرّة تلو الأخرى؟ هل في قدرتنا أن نشتري لعبة غير ضرورية؟

كما أنّه من غير المطلوب أن تكون جميع اللّعب تعليمية، ولكن أن تخدم بعض الأهداف الإيجابية في حياة الطّفل، وعليك الاحتراس من شراء الألعاب الالكترونية المثيرة للانفعالات، فإنّها قد تُعرض طفلك لنظم وقيم أخلاقية بعيدة كلّ البعد عمّا تحافظ عليه وتعمل على زرعه في نفسية طفلك.

5. تقديم الخدمات: إنّ تربية الأطفال رسالة تقوم على تقديم الخدمات باستمرار، وهذا معناه القيام بالأفضل أو تقديم الأحسن، إذ يصبح هذا نموذجاً للطفل في تحمّله للمسؤولية مستقبلاً. قد يتعجب الكثير من الآباء كيف سيطوّر الطّفل من استقلاليته وكفايته إذا قاموا بخدمته، لكن حين تُعبّر عن محبتك لطفلك بخدمته، كأن تفعل لهم الأشياء الّتي لا يقدرون أن يفعلوها بأنفسهم فإنّك تؤسس نموذجاً لذلك، سوف يساعده على التّخلص من التّمركز حول الذّات وتقديم المساعدة لغيره، وهذه هي رسالة الوالدين الأخيرة.فعندما يعيش الطّفل مع آباء يخدمون بيتهم ويساعدون الأقارب والجيران فإنّه سيتعلّم تلقائياً خدمة الآخرين بمحبّة ودون مقابل.

* إنّ المحبّة المشروطة تقود الطّفل إلى الشّعور بالقلق وبعدم الأمان، إلى الغضب الدّائم، وبالتّالي ينقص تقديره لذاته، ولكن ما إن تنهجوا كآباء ومربين منهجية الأدوات/اللغات الخمس مع أولادكم حتى تكتشفوا تأثيرها الإيجابي على سلوك طفلكم.

العدد 1104 - 24/4/2024