مقاهي دمشق.. ذاكرة السوريين

لو تكلمت طاولات المقاهي في دمشق لنطقت بتاريخ عريق كانت شاهدة عليه منذ عقود، فهي إن صح التعبير ذاكرة الدمشقيين، لم تكن يوماً مجرد مكان لاحتساء القهوة فقط، إنما كانت ملتقيات فكرية أدبية فنية وسياسية للفنانين والمفكرين والمثقفين، وفيها تأسست الأحزاب والحركات الفكرية إضافة إلى كونها مكاناً للترفيه ولعب الورق والنرد وملتقى للأصدقاء.

تحوي مدينة دمشق عدداً كبيراً من المقاهي العريقة التي يعود تاريخ إنشاء معظمها إلى القرن التاسع عشر، ويطل أغلبها على الشوارع الرئيسية والأسواق الشعبية القديمة.

ويؤكد نعمان قساطلي في كتابه (الروضة الغناء في دمشق الفيحاء) أن عدد المقاهي الدمشقية بلغ 110 مقاه في القرن التاسع عشر، مشيراً إلى أن تلك المقاهي شكلت متنفساً هاماً لجميع فئات الشعب السوري.

الروضة

يعد مقهى الروضة من بين المقاهي القليلة الباقية في دمشق التي تجمع سمات المقهى القديم والحديث في آن، فطاولاته الرخامية تجمع حولها عدداً كبيراً من الفنانين والمثقفين إضافة إلى كبار السن والمتقاعدين.

تأسس المقهى عام 1938 على بقايا سينما صيفية، أسسه السيد عبد الرزاق مرادي، وكان في البداية سينما في الهواء الطلق، لكنه تحول في خمسينيات القرن الماضي إلى مقهى.ارتاده كبار السياسيين والمثقفين منذ زمن بعيد مثل (شوقي بغدادي – عادل أبو شنب – نصر الدين البحرة.. إلخ).

على مر السنوات، صار (الروضة) معلماً من معالم دمشق، وساعده وقوعه على بعد أمتار من مبنى البرلمان في أن يصبح مكاناً مفضلاً للقاء السياسيين، وشهد المقهى أحداثاً كثيرة بحكم قربه من البرلمان السوري، فقد كان أعضاء البرلمان يأتون إليه بعد كل جلسة ليتحدثوا بالأحوال العامة لسورية في تلك الفترة.

مقهى الكمال

لم يقتصر دور المقاهي على الترفيه، بل تعداه إلى نشاط اجتماعي أفرز سلوكاً وفكراً جديداً وحالة ثقافية مرموقة، وحفلت المقاهي بالفعاليات السياسية، فمنذ عقد العشرينيات وحتى الستينيات من القرن الماضي نشطت في بعض مقاهي دمشق حركة الأدباء والشعراء والصحافيين، مما أفضى إلى نشوء مجالس شكلت منتديات أدبية، ومن أشهر تلك المقاهي (مقهى الكمال) في ساحة المرجة (الذي تحول فيما بعد إلى سينما غازي) إذ كان يجتمع فيه العديد من الأدباء، عرف منهم الشاعر الفلسطيني خليل السكاكيني والأديب والصحافي معروف الأرناؤوط والصحافيان محمد وأحمد كرد علي والصحافي نجيب الريس وغيرهم. ولم يقتصر ارتياد المقهى على الأدباء والمفكرين والشعراء بل ضم جميع شرائح المجتمع..

أما اليوم فيقع مقهى الكمال إلى جانب سينما الكندي، ويبلغ عمره أكثر من خمسين عاماً، ويرتاده الصحفيون والفنانون، إضافة إلى الشبان والمتقاعدين.

الهافانا

في منتصف الأربعينيات وبالتحديد عام 1945 افتتح مقهى جديد عرف بـ(مقهى الهافانا)، وكان يقع مقابل (مقهى البرازيل) ، يقع هذا المبنى في الجهة الغربية من شارع فؤاد الأول عند تقاطع شارع المتنبي وشارع بور سعيد، قبل أن يتحول البناء إلى مقهى كان ملهى (بار) يعرف بملهى القطة السوداء، وفي عهد الوحدة السورية – المصرية تحول اسم هذا المقهى إلى (مقهى السلوان) ثم أعيد فيما بعد إلى اسمه الأصلي، وفي آخر السبعينيات كان سيحول إلى محل بيع للألبسة، فقامت حملة قادها بعض المثقفين والأدباء وأعيد المقهى. وعرف من رواد هذا المقهى الذين كانوا سابقاً من رواد مقهى البرازيل الشعراء والأدباء: (محمد الماغوط وأدونيس وشوقي بغدادي ومصطفى بدوي وأحمد الجندي ونديم محمد وسعيد الجزائري وعادل أبو شنب ونسيب الاختيار وإسكندر لوقا وشاكر مصطفى) وغيرهم.

قهوة النوفرة.. 500 عام من الاستمرار

يعود تاريخ المقهى إلى أكثر من 500 سنة، يعتبر أقدم مقهى دمشقي شعبياً كان أم غير شعبي، وتعود شهرته إلى حفاظه على التراث القديم وخاصة الحكواتي، الذي ارتبط بالمقهى منذ تأسيسه،كما يتميز بأعمدته الأثرية والزخارف، أما زبائن المقهى فكان أكثرهم من السياح الأجانب والعرب. ارتاده بشكل دائم عدد من الأدباء والشعراء والفنانين، ومنهم شوقي بغدادي وعادل أبو شنب. أما التسمية فجاءت من الحارة التي يقع فيها المقهى، وهنا بحرة مجاورة (فيها نافورة ماء) و قد بقي هذا الفوار الذي كان يتلقى ماءه من نهر بانياس أحد فروع بردى حتى الستينيات المتأخرة من القرن العشرين، فأقيمت في مكانه، في الواقع ذاته نافورة صناعية.

كما أن شهرة مقهى النوفرة جاءت من قربه من الجامع الأموي الشهير ووجوده في منطقة ذات ثراء معماري أثري فريد، منها تتفرع كل حارات دمشق القديمة وصولاً إلى العمارة وباب توما، لذلك فإن كل من يريد التجول في حارات دمشق القديمة سيمر من أمام المقهى بعد أن ينتهي من زيارة سوق الحميدية والجامع الأموي، وسيتمكن من الاستمتاع بالهواء الطلق من خلال جلوسه في واجهة المقهى التي تطل على الجامع الأموي.

مقهى الحجاز

افتتح مقهى الحجاز قبل نحو مئة سنة، وفي المقهى مجموعة من الأشجار الجميلة المعمرة التي زرع بعضها مع تأسيس محطة الحجاز قبل مئة سنة، وفيه أيضاً بحرتان مميزتان ومشهورتان بنافورتيهما ويجلس بجانبيهما رواد المقهى.ويعتبر مقهى الحجاز من المقاهي الشعبية البسيطة التي يرتادها الجميع، كما أن الكثيرمن السياح – قبل بدء الأزمة -اعتادوا الجلوس فيه.

مقاهي دمشق.. شاهدة على العصر

شهدت بعض مقاهي دمشق في نهاية العهد العثماني العديد من الاجتماعات الوطنية والسياسية وذلك بعد إعلان الدستور العثماني عام 1908 ففي ذلك العام أعلن تشكيل (جمعية النهضة العربية) رسمياً بعد أن كانت سرية عند تأسيسها عام 1906 في (الأستانة) من قبل مجموعة من الطلبة السوريين الذين كانوا يدرسون فيها، وأقامت الجمعية حفلاً بمناسبة إعلان تشكيلها في (مقهى القوتلي) بحي السنجقدار، وقام أعضاء الجمعية بإلقاء العديد من الخطابات طالبوا فيها ببث الروح القومية العربية بين الأهالي وطالبوا بحقوق الأمة العربية. وفي عهد الانتداب الفرنسي اتخذ الوطنيون أيضاً (مقهى القوتلي) مركزاً لاجتماعاتهم وقادوا منه المظاهرات وإعلان الإضرابات في المدينة، وأشهرها التي قامت عام 1922 احتجاجاً على اعتقال د. عبد الرحمن الشهبندر ورفاقه الوطنيين الذين أعلنوا أول انتفاضة وطنية في عهد الانتداب. و منذ الأربعينيات من القرن الماضي أصبحت لهذه المقاهي مكانة أدبية وسياسية مهمة، وذلك بعقد الندوات الأدبية والسياسية فيها، ففيها يخرج الأدباء والفنانون السوريون المعروفون، ومنها انطلقت الجمعيات الأدبية والفنية لتبني لها مكانة هامة في حياة السوريين، وقد كانت هناك مقاه صغيرة عبارة عن غرفتين تعقد فيها الندوات، ورحلت بتحويلها إلى مخازن ومطاعم، لكن بقي أثره واضحاً في كتابات الأدباء السوريين والعرب أيضاً.

للمستشرقين فيها حكايات

سحرت المقاهي الدمشقية الرحالة الأوربيين الذين قدموا إلى دمشق في القرن التاسع عشر، ومنهم الرحالة الإنكليزي (تشالز أديسون) الذي زار دمشق في شهر تشرين الأول من عام 1835 وأعجب بدمشق وأطلق عليها اسم (باريس الشرق) لكثرة المقاهي التي كانت توجد فيها وأناقتها. أما (جانتيفينو) الرحالة الفرنسي بعد أن زار دمشق عام 1664 فقال: كل مقاهي دمشق جميلة، ولكن أجمل المقاهي تجده في الضواحي، أي خارج سور المدينة القديم، وبينها مقهى السنانية ويطلق عليه اسم القهوة الكبيرة لاتساع مساحته، ويزيد من رونقه ذلك العدد الكبير من النوافير الدافقة في بحراتها الكبيرة.

ولاة دمشق والمقاهي

ساهم العديد من ولاة دمشق في بناء المقاهي ومنهم الوالي (درويش باشا) الذي أنشأ مقهى بالقرب من سوقه سمي مقهى الدرويشية، وجاء بعده الوالي (سنان باشا) فأمر سنة 1568 ببناء مقهى بالقرب من سوقه، كما أنشأ (أسعد باشا العظم) العديد من المقاهي في أنحاء المدينة عرف منها (مقهى الشاغور) سنة ،1705 وأنشأ (الدفتر دار فتحي القلانسي) مقهى قرب (حمام فتحي) في حي الميدان.

المقاهي اليوم

مازالت المقاهي متنفساً وملتقى للمثقفين إضافة إلى المتقاعدين والشباب، لكنها أصبحت أقرب إلى مكان للترفيه، فمعظم من يرتادها اليوم يقصدها بهدف (تغيير الجو) نتيجة للضغوط التي يعاني منها الجميع، ونظراً لغلاء الأسعار فإن الجلوس فيها فقد صفة الاستمرارية.فبعد أن كان سعر كوب الشاي يصل إلى 50 ليرة كحد أقصى أصبح يتراوح بين 100 ليرة و200 ليرة سورية أي أن تكلفة الجلوس في المقهى قد تصل إلى 400 ليرة سورية، وهذا ليس بمقدور الجميع، فآثر معظم الناس الجلوس في المنزل نتيجة الظروف المادية الصعبة، وفقدت المقاهي بذلك زبائنها الدائمين، إضافة إلى أن الظروف الأمنية وانتشار المخبرين في معظمها أفقدها نكهتها الثقافية والسياسية.

بين التأييد والمعارضة

لم تسلم مقاهي دمشق من الانقسام السائد في الشارع السوري بين مؤيد ومعارض، فبعضها أصبح مكاناً لتجمع الموالاة والبعض الآخر مكاناً لالتقاء المعارضة، حتى غدا الموالون للنظام لا يجلسون في المقاهي المحسوبة على المعارضة، والعكس صحيح!

العدد 1102 - 03/4/2024