ظاهرة العولمة.. تأثيراتها وسمات التطور العالمي

لقد أفرزت العولمة، نزعة معاكسة تقف بمواجهة النزعة القومية، وهي تتسع بصورة مستمرة ومتصاعدة، وتبرز بوضوح في جميع المجالات، وعلى الأخص في الجانب الاقتصادي. أصبح الاقتصاد العالمي متشابكاً، بحيث لا يمكن لدولة أن تتطور بالانعزال عن ذلك. إن النزعة المعاكسة للقومية يفرضها التطور الاقتصادي العالمي. نرى الآن قوميات ودولاً عديدة في أوربا تسعى نحو الاندماج اقتصادياً، ويدفع هذا الاندماج إلى ظهور ثقافة مشتركة وإلى تمازج فيما بينها، وكذلك في آسيا، رغم أنها تتم في ظروف وجود صعوبات أكبر، وما يجري في آسيا يجري في أمريكا اللاتينية وحتى في إفريقيا. إن هذه الظاهرة، ظاهرة التكتلات الاقتصادية تتخطى الأطر القومية والوطنية.

أما ظهور بعض النزعات القومية المتطرفة التي نشأت إثر انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي، فكان لها طابع وقتي. ومرد ذلك يعود إلى السياسة التي كانت متبعة تجاه تلك القوميات، وإلى فشل الاتحاد السوفييتي والأنظمة الاشتراكية في حل المسألة القومية، مما أدى إلى انفجارها بعد الانهيار، بيد أن النزعة المعاكسة سرعان ما ظهرت من جديد. وقد جاءت نتائج الانتخابات الليبرالية التي جرت في هذه الدول والمتعلقة بالدخول إلى السوق الأوربية المشتركة دليلاً لرجحان التيار الذي يدعو لانصهار تلك البلدان في أوربا الموحدة.

فهل يحمل هذا التطور العالمي في طياته، والذي يشكل الاقتصاد أرضيته، انهياراً للمشروع القومي؟ التاريخ سيجيب عن ذلك. ولكن لنأخذ على سبيل المثال البلدان العربية: هناك من يقول إن الحركة القومية العربية إذا لم تأخذ بالحسبان ها التطور العالمي الذي يجري، فستمنى بالفشل حتماً. لذلك يجب عليها أن تبني نفسها بما يتواكب مع التطور العالمي، لا أن تقف بمواجهة هذا التطور لأنها هي الأضعف. على الحركة القومية إذاً أن تغتني بمضامين ديمقراطية واجتماعية، وأن تعمل على صياغة مشروع يهدف إلى إقامة جبهة عريضة موجهة ضد الجوانب السلبية في تطور العولمة. إذا لم تقم بذلك، فهي لن تستطيع حل المسائل التي طرحتها شعارات لها، وهذا سيؤدي بدوره إلى خلق مشاعر من الإحباط لدى الشعوب العربية.

لا ينطبق ذلك على الحركات القومية فقط، وإنما على الحركات الاشتراكية والحركات السياسية ذات الطابع الديني.

يجب على جميع هذه الحركات أن تذهب لملاقاة هذا التطور العالمي، ويجب أن تتخلى عن تطرفها الأيديولوجي ورفضها للآخر.

لقد أحدثت العولمة الجديدة انعطافاً كبيراً على المستوى العالمي، تحققت فيه مستويات متقدمة وكبيرة جداً في مجال تقسيم العمل الدولي، وتخفيض تكاليف الإنتاج وارتفاع في إنتاجية العمل، وزيادة واسعة في الإنتاج في الدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة، وبالتالي تحقيق موقع متميز يؤمن لها ربحية عالية جداً، في الوقت الذي تواجه فيه بلدان العالم النامي، أو كما يطلق عليها اسم بلدان الجنوب، مزيداً من الهامشية والدور الضعيف والثانوي في هذا التقسيم الدولي الرأسمالي للعمل، مما يزيد في ضعف الإنتاجية، وبالتالي ارتفاع تكاليف إنتاج الوحدة الواحدة من السلع، واستمرار العجز عن الوصول إلى امتلاك ميزة الإنتاج التنافسية في العلاقات التجارية الدولية، ويؤدي هذا إلى: التبادل غير المتكافئ بين الجنوب والشمال، وبالتالي عرقلة نمو الصناعة في تلك البلدان بحكم العوامل التي تحدثنا عنها، وهذا بدوره يعمّق مشكلة البطالة أكثر فأكثر، ويؤدي كل ذلك إلى انخفاض مستويات المعيشة لسكان هذه البلدان، وتراجع متوسط حصة الفرد الواحد من الدخل القومي، كما يؤدي ذلك إلى ازدياد مديونية هذه البلدان تجاه الدول الرأسمالية المتقدمة، وخاصة مديونيتها للمؤسسات المالية الدولية، التي تتحكم بأسواق المال في العالم. ويتبع ذلك العجز عن تسديد هذه الديون، مما يؤدي إلى تفاقم تبعية تلك البلدان الاقتصادية والسياسية لهذه المؤسسات المالية، وللدول الرأسمالية المتطورة.

وهناك ملاحظة أخرى لا بد من الإشارة إليها، وهي أن الميزة النسبية التي كانت تتمتع بها بعض البلدان النامية المالكة للموارد الأولية مثل النفط والغاز وغير ذلك، قد تراجعت، ولم تعد تلعب ذلك الدور السابق، بسبب العولمة الجديدة، وبسبب هيمنة الشركات العملاقة المتعددة الجنسيات على سياسات تلك البلدان، وعلى اقتصادات الخامات فيها، من حيث الاستخراج والتصدير والتسعير. ويضاف إلى ذلك، أن إدخال أحدث الأساليب التقنية في الإنتاج وفي الخدمات من جهة، ومن جهة ثانية تسريع عملية الخصخصة لما تبقى من مشاريع إنتاجية وخدمية حكومية، ومن جهة ثالثة التحديث للإدارة والتنظيم على الأصعدة المحلية والدولية، كل ذلك قد ساهم ويساهم في تقليص الحاجة حتى إلى جزء من العمال المهرة والمهندسين والإداريين وغيرهم. وبالتالي فإن ذلك يدفع بأعداد كبيرة إلى الشارع حتى في البلدان المتطورة، ويؤدي ذلك إلى انخفاض معدلات الأجور، وإلى انخفاض حصة العمال من الدخل القومي وازدياد عدد الفقراء.

إن ظاهرة العطالة عن العمل في البلدان الرأسمالية، لم تعد محصورة فقط بالعمال غير الموصوفين، وإنما اتسعت لتشمل جزءاً من العمال الموصوفين والمهندسين وغيرهم، وهذا ما يؤكد صحة ما طرحه ماركس حول الإملاق النسبي للطبقة العاملة، لا تزال هذه الموضوعة تتأكد باستمرار. هذا ما تخلقه العولمة في العالم المتقدم.

إن ما تخلفه العولمة في البلدان النامية هو أشد وأصعب وأعمق. فهيمنة الدول الرأسمالية والشركات الاحتكارية الكبرى على اقتصادات هذه الدول تمارس تأثيراً سلبياً جداً على تطور الرأسمالية الصناعية الوطنية، وتؤدي إلى نمو البرجوازية الكومبرادورية في تلك البلدان، وتحولها إلى سوق وتزيد البطالة، إضافة إلى معدلات نمو سكاني مرتفعة، مع غياب الرساميل أو ضعفها، مما يؤدي إلى غياب التنمية والنمو بآن واحد، وإلى تفاقم الوضع، وإلى بروز ظاهرة واسعة جداً، وهي ظاهرة الهجرة من بلدان الجنوب إلى بلدان الشمال المتطور.

إن أحجام هذه الهجرة أصبحت كبيرة جداً، وقد أدى وذلك يؤدي إلى ردود فعل عنيفة في البلدان الرأسمالية المتطورة، منها ازدياد ظاهرة العنصرية، والعداء لبلدان العالم النامي، ويجبر الكثير من البلدان المتطورة على اتخاذ تدابير من أجل الحد من الهجرة إليها ومحاربة المهاجرين، واتخاذ مواقف عنصرية منهم.. إلخ.

بيد أنها عاجزة عن وقف هذه العملية. وإذا لم تحدث تغيرات إيجابية في بلدان الجنوب، فإن هذا الانزياح من الجنوب إلى الشمال، سيأخذ أبعاداً أكبر فأكبر، الأمر الذي سيعمق التفاقم الاجتماعي الكبير حتى في البلدان الرأسمالية المتطورة، ويعمق أيضاً البطالة.

هنا نستطيع القول: إن العولمة كما تفهمها دول المراكز الرأسمالية هي الرأسمال والسلع والأسواق، وبالتالي فإن هذه المراكز الرأسمالية ستعمل باستمرار لاستخدام الجوانب الإيجابية في العولمة لصالحها بشكل رئيسي، وستعرقل ما تراه في غير صالحها. يظهر ذلك واضحاً في اقتران العولمة بسعي مجموعة الشركات الاحتكارية الضخمة المتعددة الجنسيات والعابرة للحدود إلى السيطرة على العملية الاقتصادية الدولية برمتها، أي على مجمل عملية إعادة الإنتاج على النطاق العالمي، والهيمنة هيمنة كاملة على تصدير التقنيات الحديثة، ويتجلى ذلك من خلال توظيفات الرساميل، فثلثا الرساميل العالمية موظفة في عشرة بلدان، بينما لا يصل مقدار توظيف الرساميل في مئة دولة إلى الثلث.

لا يعني ذلك أن التناقضات بين الدول الرأسمالية نفسها سوف تختفي، إنما نرى أنها سوف تزداد، أي أن العولمة لم تستطع طمس التناقضات ضمن إطار البلدان الرأسمالية نفسها، وإنما قد عمقتها، ولا بد بالتالي من ملاحظة أن العولمة في البلدان الرأسمالية المتطورة قد أدت إلى ظاهرتين متعاكستين:

ـ الظاهرة الأولى: وهي الظاهرة الاندماجية، أي أن الاقتصاد في البلدان الرأسمالية قد أصبح متشابكاً تشابكاً كبيراً، وأن الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسيات، تشبه الأخطبوط الذي يمد أياديه إلى كل أنحاء العالم.

ـ الظاهرة الثانية: هي ظاهرة التناقض بين مختلف البلدان الرأسمالية في امتلاك التكنولوجيا الحديثة، لأن من يسبق إلى امتلاكها ستكون له الأفضلية في الأسواق ـ ومن جهة ثانية تتعمق التناقضات داخل فروع الاحتكارات نفسها، أي أن العولمة تسير باتجاه اندماجي من جهة، وباتجاه تعمق التناقضات من جهة ثانية. وهذا ما نلمحه على النطاق الدولي حالياً.

إن لهاتين الظاهرتين المتضادتين انعكاسات في قلب العالم الرأسمالي، وهي تؤدي إلى تفاقم التناقضات الاجتماعية في تلك البلدان بصورة لا مثيل لها في التاريخ، ويتعمق هذا التفاقم باستمرار، ويأخذ طابعاً معادياً للجانب الوحشي في العولمة، ويبرز في الحركات الجماهيرية الواسعة الموجهة ضد الرأسمالية نفسها

العدد 1104 - 24/4/2024