تمويل التنمية والإعمار

تكتسب عملية تمويل التنمية والإعمار أهمية بالغة، خاصة بعدما تعرض له الاقتصاد الوطني من (عقوبات) ومن حصار زادت من صعوباته، وتعرض الأمن الإنساني للشعب السوري للخطر، فضلاً عن أن هذه العقوبات والممارسات والحصار تعتبر مساساً مباشراً بحقوق الإنسان، التي طالما اتخذتها الدول المتقدمة (والحضارية) وكذلك الدول العربية (الشقيقة) ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية، باعتبار أن ما يحصل في سورية هو مطالبة بالحرية وبحقوق الإنسان.

وبعد التدمير الممنهج للبنى التحتية، والتخريب والنهب الحاصل في المعامل والمنشآت الصناعية والهدم الواسع لبيوت السكن، أصبحت مسألة التمويل قضية من أهم ما سيواجه سورية فيما بعد انتهاء الأزمة.

فكيف يتم تأمين التمويل اللازم للتنمية والإعمار في ظل هذه الظروف؟

هناك وجهتا نظر متداولة نعرضهما فيما يلي:

وجهة النظر الأولى: عرضها رئيس الفريق الاقتصادي السابق (الدردري) الذي سمّته الدول الأوربية والولايات المتحدة والمؤسسات الدولية، مسؤولاً عن (إعادة إعمار سورية) وعيّنته من أجل ذلك مستشاراً اقتصادياً في (الأسكوا- بيروت) قريباً من دمشق لتسهّل عليه التواصل مع الفئات من (رجال الأعمال) الذين هربوا أموالهم المسروقة أصلاً، والذين مصوا دماء السوريين لسنوات خلت، ثم انتشروا في بقاع الدنيا، وإن بقيت بيروت ودبي مركزين مفضّلين لهم. وهم الآن في الفنادق الفخمة في الخارج بانتظار إشارة العودة (المظفرة) ليتولوا مهمة إعادة الإعمار بوعود مختلفة جاءتهم من المحافل الخارجية، التي تعيش أوهام العودة المظفرة.

والدردري الذي يتولى مهمة التواصل مع هؤلاء، ومع بعض من ارتبط به (و لا يزال مزروعاً في أروقة الحكومة البيروقراطية). يقوم أيضاً بالتنسيق مع جميع هؤلاء، ومع الدول من (أعداء سورية) والمعارضة الخارجية المرتبطة بالمخطط الجهنمي لتدمير سورية دولة ووطناً وشعباً وجيشاً.

ما هي خطة هؤلاء الاقتصادية لإعادة الإعمار؟ هذا ما يعمل من أجله الدردري في نشاط محموم، فما يكاد ينتهي من اجتماع حتى يتلوه بندوة أو مؤتمر. وقد عرض خطته هذه التي صاغتها المؤسسات المالية الدولية والشركات الأجنبية التي طالما امتدحته وسوّقته، في حوار أجراه معه عضو مشروع الحوار السوري الصحفي كيفورك ألماسيان بتاريخ 16 شباط 2013 ومنشور ضمن إصدارات ما يدعى (مشروع الحوار السوري) تحت عنوان (الأزمة السورية.. الملفات العالقة).

يقول الدردري فيما يتعلق بالتمويل، ومن منطق المسؤول الاقتصادي لسورية: (في الخطة الخمسية الحادية عشرة كان من المفترض إنفاق 45 مليار دولار من الموارد الحكومية و45 مليار دولار من الاستثمار الخاص، إذا أردنا الآن تحقيق الخطة نحن بحاجة إلى 90 مليار دولار، إضافة إلى تكاليف إعادة الإعمار البالغة 60 مليار دولار، التي أعلن عنها رئيس مجلس الوزراء، فنصبح أمام 150 مليار دولار تسمى (فجوة التمويل)، فكم تملك الدولة من هذا الرقم؟ وكيف ستحصل على 150 مليار دولار؟).

والدردري يجد الحل في الاستدانة، والبنك الدولي، كما يقول الدردري: (يمكن أن يقدم الدعم اللازم.. ويمكننا القبول بشروط القرض… وهي شروط لم نقبل بها سابقاً (!!) لكننا مجبرين عليها اليوم من أجل إعادة الإعمار، فالموارد المتاحة لسورية محدودة، وإذا انتهت الأزمة اليوم، نستطيع أن نحقق الخطة الخمسية الحادية عشرة، رغم الدمار…. على أن تتفاعل الحكومة مع ملفات الاستدانة بشفافية).

هكذا يجد الدردري (ومشغّليه) الحل، إنه في القروض الخارجية المدعومة من البنك الدولي وبشروطه التي علينا قبولها.

* وجهة النظر الثانية: وقد عبر الدكتور همام الجزائري رئيس هيئة تخطيط الدولة والتعاون الدولي، عن وجهة نظر أخرى، ففي شهر آذار 2014 تقدم بدراسة بعنوان: سورية: نحو الانتعاش المبكر والتنمية. وفيها يعرض الرؤية الوطنية لإدارة مرحلة التعافي المبكر وإعادة الإعمار والتنمية وقدم هذه الرؤية في لقاءات متعددة، منها لقاء خاص مع بعض الاقتصاديين في جمعية العلوم الاقتصادية السورية. وبعد أن يستعرض مستويات العمل في الانتعاش المبكر للاقتصاد وإعادة البناء، يتحدث عن البرنامج التنفيذي ويعترف بأن التحدي الأول المباشر يتمثل في التمويل، نظراً لحجم الفاتورة غير المسبوقة لإعادة البناء.

وهنا يفترض وجود (مانحين) لمساعدات خارجية، دون أن يحدد من هم هؤلاء المانحون. ولكنه يقول: (يجب أن نأخذ في الاعتبار أن المساعدات الخارجية قد تكون أقل مما هو مطلوب… لذلك فإن المشاركة الفعالة للقطاع الخاص ستكون مركزية لخلق فرص العمل وتقليص عدد العاطلين عن العمل… وهذا يتطلب تعديلات في الإطار المؤسسي والتنظيمي الذي يحدد الهياكل الحالية للإدارة الاقتصادية والمؤسسية.

ويجب أن يتوفر لدى سورية الإطار التنظيمي المناسب لإدارة مساهمات المانحين بكفاءة وشفافية).

لكن الدكتور الجزائري، يقدم حلاً حكومياً أكثر وضوحاً في حديث صحفي نشر في جريدة الثورة بتاريخ 15/7/،2014 فهو إذ يعرض الإستراتيجية التي تعمل بها هيئة التخطيط والتعاون الدولي ويربطها بالموارد، يشير إلى أن التحدي الأساسي اليوم هو (إدارة هذه الموارد من أجل زيادة قدرة الدولة في مرحلة مقبلة لزيادة فرص العمل والتشغيل وخلق مطارح ضريبية، فالاستهداف اليوم هو توسيع المطارح الضربيبة، إذ سيكون هناك تشاركية للبحث عن مطارح ضريبية جديدة لها تحصل مستوى ضريبياً أعلى، سيكون مصدراً رئيسياً لموارد الدولة بغياب النفط والموارد الأخرى).

وفيما يتعلق بإعادة الإعمار، فهو يرى أن تكاليفها لن تكون باهظة والمبالغ التي تطرح بمواقع عديدة، يراها مبالغاً فيها. ويرى أن لدى سورية خيارين أساسيين لتمويل الإعمار: إما بالاقتراض الدولي، وإما بزيادة الاستثمارات المحلية والأجنبية. (ومقاربتنا في سورية لخيار زيادة الاستثمارات وزيادة مساهمته بإعادة الإعمار بهدف التقليل من الحاجة إلى الاقتراض الدولي). ولهذا فهو يرى أنه ضمن هذه الرواية يأتي (قانون التشاركية) لخلق الإطار التشريعي لمساهمة القطاع الخاص. فالدولة بالتشارك مع القطاع الخاص قادرة على تنفيذ الإعمار تدريجياً.

والمعروف أن مشروع قانون التشاركية، الذي أعدته الحكومة مؤخراً وأقرته، صمم خصيصاً لتنفيذ مشروعات البنية التحتية بالمشاركة بين القطاع العام والقطاع الخاص.

الطريق الثالث:

في الواقع أن وجهتي النظر المعروضتين، تلتقيان في النهاية حول نقطة مركزية، وهي الاعتماد على القطاع الخاص والاقتراض من الخارج، رغم أن وجهة نظر هيئة تخطيط الدولة تبدو كما هي في الظاهر أنها غير موافقة على القروض من الخارج، ولكن جوهر الاعتماد على القطاع الخاص في تنفيذ مشروعات البنية التحتية، يعني اللجوء إلى الاستثمار الخارجي، لأن القطاع الخاص المحلي سوف يلجأ إلى الشركات الأجنبية، وسيكون واجهة لهذه الشركات، وتلك الشركات بدورها سوف تلجأ إلى المؤسسات المالية لتمويل المشروعات التي تعهدت بتنفيذها.

مما يعني قروضاً وتسهيلات تقدم في النهاية للبلاد (سواء عن طريق مباشر أو عن طريق الشركات الخاصة) وهذه مديونية على الدولة، تترتب على الجيل الحاضر وترهن أجيال المستقبل.

إضافة إلى هذا فإن التشاركية في إقامة مشروعات البنية التحتية، بحجة أن القطاع الخاص أقدر على تأمين التمويل والإدارة والتكنولوجيا، هذه الحجة غير مقبولة وغير واقعية. إن كفاءة القطاع الخاص في هذه المجال تظهر فقط في مرونته وقدرته على إجراء الوساطات والسمسرة وقبض العمولات، والقطاع العام (يستطيع) – إذا ما توفرت له الكفاءات النزيهة ذات الانتماء الوطني – أن ينفذ المشروعات بكفاءة أعلى وتكاليف أقل.

تظل هناك مسألة أخرى تتعلق بطبيعة مشروعات البنية التحتية، فعدا ارتباطها بالأمن القومي، وبالتالي لا يجوز أن يتسلل إليها الأجنبي خاصة من بلدان وقفت تاريخياً ضد تنمية سورية وتقدمها، نقول عدا ارتباط مشروعات البنية التحتية بالأمن القومي، فإن التجربة السورية مع الشركات الأجنبية أثبتت أنه ليس بالإمكان الركون إليها في عملية التنمية والإعمار، فمن خلال الأزمة تبين أن الشركات الأجنبية انصاعت للعقوبات الظالمة التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي على سورية، فكانت أول الشركات التي انسحبت من العمل في سورية شركات الخدمة في قطاع النفط. وفي ظل الظروف السياسية والاقتصادية التي تمر بها سورية سيكون من غير السليم الوقوع مرة أخرى في أخطاء جديدة بالاعتماد على القطاع الخاص (الذي قام بتهريب أمواله التي جمعها من أموال السوريين) أو الشركات الأجنبية (التي انسحبت مع أول قرار بالعقوبات وفرض الحصار الاقتصادي) تحت مسميات براقة كالتشاركية.

من هذا المنطلق فإن الطريق الأسلم لتأمين الموارد المالية اللازمة للتنمية والإعمار فيما بعد انتهاء الأزمة، هو في تأكيد شعار (الاعتماد على الذات) ومن خلال مواردنا الوطنية المتاحة، وما يمكن أن تسهم به الدول الصديقة، بما يحفظ لنا سيادتنا وكرامتنا الوطنية.

 فإن الفجوة التمويلية لعمليتي التنمية والإعمار يمكن أن يتم تأمينها بإحداث صندوق خاص تصب فيه الموارد التالية:

1- مخصصات ترصد في الموازنة العامة.

2- مبالغ التعويضات من الدول التي وقفت وراء العمليات التخريبية وذلك بقرار دولي.

3- الأموال التي سيتم استرجاعها من الخارج والتي تم نهبها وسرقتها من أموال الدولة والشعب.

4- المنح والمساعدات من الدول الصديقة والداعمة.

ويوضع للصندوق نظام خاص وإدارة ذات صلاحيات واسعة، على أن تتمتع بالنزاهة والشفافية والكفاءة والالتزام الوطني. ويعين لهذا الصندوق مجلس أمناء، يضم عدداً من أصحاب الكفاءة، إلى جانب ممثلين عن المتضررين وممثلين عن القطاعات الاقتصادية والخدمية.

ويتلازم إحداث الصندوق مع برنامج شامل للإصلاح الاقتصادي يعتبر الإصلاح الضريبي أهم مجالاته، كما تجرى عملية حصر لأملاك الدولة بهدف تحسين الأداء فيها ورفع نسبة إسهام مواردها في عملية التنمية والإعمار.

 

من بحث بعنوان (الاقتصاد السوري من المحنة والكبوة إلى النهوض والتنمية)

العدد 1102 - 03/4/2024